تربية و التعليم

هل حقا كان موضوع الرياضيات 2020-علوم تجريبية- صعبا واستثنائيا؟

انفاس بريس 24:بقلم المفتش : عبد الرحمان عشاق

إثارة هذا السؤال لم تأت بسبب الفيديوهات المنتشرة في العديد من المواقع الإلكترونية التي عودتنا على نشر “ذكا” بعض شرائح مجتمعنا أو بسبب طرح سؤال مرتبط في البرلمان، بل لمحاولة مناقشة بعض ذوي الاختصاص من الأساتذة الذين أيدوا ما جاء في تلك الفيديوهات بل ذهب البعض منهم إلى الحديث عن “فاجعة الرياضيات” هكذا؟
فالرياضيات كما يعلم الجميع هو علم يهدف الى تنمية كفايات التحليل والتركيب والاستدلال والتعليل والتظنن والبرهان … إضافة إلى إنتاج نظريات علمية رصينة تنهل منها العلوم التجريبية وغيرها، كما تساهم بشكل كبير في تنمية الفكر النقدي الذي يسائل ويُشَرح قبل القبول ويعتبرها جل الفلاسفة والعلماء بكونها “النموذج الأول للمعقولية”. وتنص التوجيهات التربوية الرسمية الخاصة بتدريسها على تنمية تلك الكفايات والعمل على إكسابها كمواصفات أساسية منتظرة من تلاميذ نهاية السلك الثانوي.
تميز العقد الأخير من تدريس الرياضيات بالمغرب بسيادة توجه “الرياضيات التطبيقية” وهو توجه عالمي فرضته التطورات التكنولوجية والصناعية المتواترة، غير أن فهمه واعتماده يتغير ويرتبط بخصوصية كل بلد وموقعه ضمن دورة الإنتاج المعرفية والعلمية العالمية. في بلادنا، تم منذ بدايات تسعينيات القرن الماضي، التراجع التدريجي عن تدريس “الرياضيات العالمة” بتقليص وسحب العديد من النظريات التي كانت تشكل أساس البرنامج الدراسي المقرر في بداية السك الإعدادي (نظريات المجموعات، الهندسة الإقليدية في شكلها الاكسيوماتيكي، مبادئ البنيات الجبرية..) لنصل بعد عدة تجارب إلى المنهاج الحالي (حوالي 12 سنة) والذي يتميز أساسا بسيادة محور التحليل على باقي المحاور الأخرى (الهندسة والجبر والإحصاء والاحتمالات) مع الابتعاد أكثر على الجانب النظري المتمثل في “الباراديغمات الرياضية” والاستدلالات وتكييف المراقبة والامتحانات الاشهادية لكي تساير هذا التغير.
لن أخوض هنا في الجوانب الشائكة المتعلقة بالمعارف والمحتويات التي يتطلبها تدريس الرياضيات في هذه المرحلة الراهنة من تطوربلادنا، سأكتفي فقط ببعض الملاحظات المرتبطة بواقع الحال في ارتباطه بالتقويم/ امتحان البكالوريا بشعبة العلوم التجريبية. منذ سنة 2008 بدأنا نشاهد امتحانات يسود فيها محور التحليل (أكثر من خمسين في المئة) والخمسين المتبقية تتوزع بتوازن بين الأعداد العقدية والهندسة الفضائية والاحتمالات، وتم تكريس هذا التوجه بعد ظهور الأطر المرجعية لامتحانات البكالوريا والتي حصرت تغطية الامتحان في هذه المحاور. فالأطر المرجعية كتعاقد بين كل المعنيين بالعملية التعليمية/التعلمية هي مسألة إيجابية مادامت تشكل نوعا من دفتر تحملات أصبحت تفرضها تطورات وتشعبات المواد المدرسة كما أنها تؤطر مجالات اشتغال واستعداد التلاميذ والأساتذة على السواء، وهي أمور محمودة لارتباطها بقيم المسؤولية والشفافية.
ماذا جرى فيما بعد؟ أصبحنا نشاهد سنة بعد أخرى امتحانات تستنسخ شكلا ومضمونا، دراسة دالة عددية (أسية او لوغاريتمية) مراحل الدراسة تبدأ بمجموعة تعريف معطاة وتمر على نهايات معطاة وفروع نهائية محددة ومشتقة معطاة كذلك رفقة إشارتها، ويبقى المنحنى هو تقريبا مجال التمييز بين تلميذ وآخر بعدها تأتي أسئلة معتادة حول حساب مساحة حيز بدالة أصلية معطاة كذلك لتنتهي الدراسة غالبا بالمتتالية الترجعية المرتبطة بتلك الدالة. تمارين الأعداد العقدية والهندسة الفضائية والاحتمالات تعطى سنويا بنفس الكيفية وحتى بنفس الأسئلة المرتبطة بنفس السياقات؟
هذا الوضع أثار استياء كبيرا لدى العديد من المهتمين والغيورين على الرياضيات في بلادنا، وبدأ الحديث عن نمطية الامتحانات الاشهادية وبالتالي عن تدني مستوى تحصيل تلامذتنا في هذه المادة. بموازاة مع ذلك تم الاستغناء عن تدريس وبناء المفاهيم الرياضية في العديد من الفصول الدراسية ليحل محله تدريس وصفات جاهزة معدة للإجابة على وضعيات معروفة مسبقا، فظهر الأساتذة “المعجزات” الذين بإمكانهم تكوين تلاميذ للحصول على نقطة كاملة (20/20). وجدنا انسفنا إذن إزاء تلاميذ كثر يحصلون على أعلى المعدلات وبموازاة مع ذلك نجد أن الكل يتحدث عن تدني وضعف مستوى التلاميذ في دراساتهم العليا.
كوفيد 19 يفرض قانونه:
جاءت الجائحة، لم ينه التلاميذ مقرراتهم إذن. تقرر امتحانهم في 70 في المئة من البرنامج وصدرت أطر مرجعية محينة. هذه النسبة المقررة من الدروس حرمت التلاميذ من جزء مهم من “المكتسبات” المألوفة (6نقط) كانت جد مضمونة بفضل النمطية وكثرة الأساتذة ذوو الوصفات الناجعة. إضافة إلى هذا الحرمان فرض موضوعيا تغيير نمطية دراسة الدالة بالشكل الذي أشرت إليه سابقا، فأصبح لازما تنويع طريقة طرح دراسة الدالة حتى يتسنى تعويض الفراغ الذي خلفة غياب محورين.
هل خرجنا من النمطية؟
– فتمرين المتتاليات العددية وضع بنفس الكيفية التي يطرح بها في حال فصله عن الدالة: متتالية متخاطة يليها متتالية حسابية اوهندسية ثم استنتاج النهاية. هل تنص عليه الأطر المرجعية؟ نعم.
– تمرين يروم حساب نهاية وتكامل، تم إعطاء كل المساعدات اللازمة للحساب. هل تنص عليه الأطر المرجعية؟ نعم.
– دراسة وتمثيل دالة عددية بنفس الكيفية المعتادة تدريسا وامتحانا.
– تمرين الأعداد العقدية بنفس النمطية مع إعطاء معادلة مميزها “غير مألوف” لأنه يحتوي على جذر إثنان؟
بحثت في الموضوع عن مكان “الفاجعة” التي تحدث عنها أحد المدرسين في أوديو تم نشره اليوم، فلم أجد لها ما يقنعني إلا تلك الجذر إثنان ربما؟ فإذا كان الأمر كذلك فتلك فاجعة حقيقية يعيشها تدريس الرياضيات ببلادنا.
حاولت إثارة هذه الملاحظات غيرة مني كممارس على مستقبل مادة أساسية في كل امتداداتها المعرفية والحياتية، مادة أصبحت بفعل النمطية التي فرضت في امتحاناتها السابقة عرضة للنقد والمحاسبة من طرف كل من هب ودب دون أدني علم بحقائق الأمور. فالفيزياء تعيش وضعا مريحا نسبيا لأنها لم تكرس تلك النمطية بفعل الوضعيات المختلفة التي تطرح كل سنة ورغم حصول التلاميذ على نقط غير مرتفعة في امتحاناتها؟
تجربة سنة 2015 وما يقع اليوم حول امتحانات بكالوريا مادة الرياضيات، تستنفرنا جميعا كمتتبعين وغيورين وكمجتمع أيضا حين نعلم أن الارتقاء بمادة الرياضيات هو في صالح تقدم بلادنا وبان تراجع نقط أبناءنا إلى مستوى متدني لكنه معقول وحقيقي أفضل من نقط مرتفعة غير حقيقية، تعصف بمستقبل فرع أساسي من العلوم.. وأيضا لن يكون لهذا التدني إن حصل أي أثر على النجاح في مباراة أو ولوج مؤسسة ذات استقطاب محدود مادامت تتبع مبدأ الاستحقاق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى