اقلام حرة

ورقة للنقاش : مدخل إلى الإصلاح التربوي

ورقة للنقاش : مدخل إلى الإصلاح التربوي

أنفاس بر بس 24  : الحسن اللحية

أولا: لا يمكن قبول أي اقتراح/ بديل دون تأصيل نظري عقلاني يستند إلى المعرفة العالمة كي تصير البيداغوجيا علما للتدريس كما يقول دوركهايم، يستحضر العلم والمعرفة لبناء الذات و ميلاد المواطن-الإنسان، و الوضع المعيش والمستقبل العام للوطن و الإنسانية كلها. و لهذا السبب اعتبرنا (بيداغوجيا) الإدماج آلة تقويمية و عدنا إلى انتقاد تاريخ علاقتنا ببيداغوجيا الأهداف التي كانت سطحية و تبسيطية و لم نبلغ فلسفتها الثاوية أو لنقل لم نتملك براديغمها فظلت بالنسبة للكثيرين آلة سلوكية تقوم على المثير والاستجابة : فعل و رد الفعل، والسلوك القابل للملاحظة . وبذلك التقت رؤيتها التقنوية برؤية بيداغوجيا الإدماج ، فبدا لجمهور كبير أن الأمر متيسر و قابل للتطبيق، إن لم يكن التطبيق هو النزعة الحاسمة فيهما معا.

ثانيا: إن تقديم بدائل (بيداغوجية) دون فهم عميق للبيداغوجيا و للأسس التي تجعل تفكيرا ما تفكيرا بيداغوجيا يجعل البديل المقترح وصفة او قالبا جاهزا لأنه لا يمكن أن نصف كل نموذج بالبيداغوجي هكذا بجرة قلم تحت اسم (نموذج بداغوجيا كذا). فمنذ روسو إلى أوغسط كونط و الفلاسفة لم يتحدثوا عن البيداغوجيا إلا بالتلميح ليترك المجال للتفكير في البيداغوجيا للعلوم الانسانية الوليدة؛ ومعنى هذا الكلام أن البيداغوجيا وليدة القرن التاسع حصرا كالعلوم الإنسانية. و لتوضيح ذلك نقول بأنها مرتبطة بميلاد العلوم الإنسانية لتكون تفكيرا في الإنسان و ظواهر المجتمع و في الطفل و ظواهر النمو و التعلم …إلخ ، أي ستكون البيداغوجيا و علوم التربية عامة تفكيرا في التربية لا خطابا حولها ، وكل تفكير لا يردها إلى القرن أو ينطلق من محاورته يحكم على نفسه بغياب الأساس النظري أو يحكم على نفسه بشيء آخر غير التفكير البيداغوجي كالتفكير النماذجي مثلا الذي تجده عند الجميع من أفلاطون إلى إخوان الصفا و غير هؤلاء و أولئك.

وبناء على ذلك فإن التراث الغربي ما قبل ميلاد العلوم الإنسانية لم يعرف يوما أي تفكير بيداغوجي يمكن جعله نموذجا ، مثله في ذلك مثل التراث العربي الإسلامي الذي يريد البعض ان يستلهم منه نماذج لن تتعدى ان تكون أدبا للسير و الاقتداء و الاعتبار.

إن التفكير بالنماذج في التربية والبيداغوجيا يثير كثيرا من التساؤلات الفكرية ، و قد يراكم الجهل الفكري بماهية علوم التربية كذلك ، بل يضاعف من الجهل والتبسيط من جهة الفكر التربوي و البيداغوجي؛ وذلك من جهة مفهوم النموذج ذاته . و لنوضح هذا الأمر نجد أن معنى النموذج لغويا هو مثال الشيء . فالمهندس يصنع مجسما ليصير مثالا يعمل عليه هو نفسه أو مقلده . وهنا يصبح المثال نموذجا للتقليد والاستنساخ.

إن النموذج هنا لا يهم المقلد و لا يعنيه فكريا و ما يهم هو تقليد المثال؛ أي تقليد النموذج.

ستكون للنموذج أسراره الخفية و ألغازه التي لا يستطيع المقلد فك شفراتها مما يستدعي تدخل الوسيط أو صاحب النموذج العارف حامل الحقيقة ، ومطلوب من المقلد أن يشتغل و يطبق دون كيف و لا لماذا لأنه في مرتبة دنيا، هكذا إذن يفضي بنا النموذج إلى فكرة الأسياد والعبيد، العارف و الجاهل، الخبير و المبتدإ، و بالجملة يفضي بنا إلى فكر الوصفة والتنميط و العسكرة النماذجية…إلخ.

إن النموذج /المثال يكون صالحا لكل زمان ومكان مادام يريد أن يقدم نفسه منزها عن الذات الفاعلة (مدرس(ة)، تلميذ(ة)، مفتش(ة)) كما لا يستحضر الشروط العامة التي يكون فيها الفاعل كيفما كان. إنها الموضوعية الفجة التي كان يحلم بها القرن الثامن عشر. فهل هناك موضوعية في التربية؟ وهل هناك موضوعية في علوم التربية التي تنتمي للعلوم الانسانية؟

كما نجد مفهوما آخر في اللغة العربية اشتغل عليه القدامى هو مفهوم الأنموذج كما ورد عند الزمخشري. ويعني هذا المفهوم المثال المقتدى به الدال على صفة الشيء، و لعل هذا المفهوم هو ما تقوم عليه التربيات التقليدية حينما تستحضر العبر و السير و الاقتداءات.

نلاحظ إذن أن مفهومي النموذج و الأنموذج لا يفيان بالغرض في ابسيمولوجيا علوم التربية لأنهما يعنيان شيئا خارج الذات الفاعلة (المدرس(ة) و المفتش(ة) و المكون(ة) والتلميذ(ة))، كما يطرحان نفسيهما من الخارج، أي من خارج الذات الفاعلة إما للتقليد أو للاقتداء. وبذلك يسقطان في تصور وضعاني تبسيطي يسهل فهمه و تقليده لأنه لا يخلخل الذات الفاعلة (مفتش(ة)، مكون(ة)، مدرس(ة)) ويجعلها معنية لا متلقية مطبقة للنموذج، بل يبدوان معا كوصفة الدواء التي تحدد ما ينبغي قبل الشروع في تناوله و إن استعصى الفهم يسترشد بالطبيب (صاحب النموذج أو المفتش أو المكون: فكرة الخبير).

إن العلوم الإنسانية ومنها علوم التربية تقوم على النظريات و البراديغمات الكبرى (لنتذكر هنا توماس كوهن صاحب بنية الثورات العلمية ، وهو من أبدع المفهوم في سياق آخر). و ننبه هنا أن مفهوم البراديغم لا يمكن ترجمته بالنموذج أو الأنموذج و لا بالنموذج الإرشادي، لأن ترجمته ببساطة هي البراديام أو البراديغم.

يعني البراديغم من بين ما يعنيه رؤية عالم ما للعالم أو للواقع أو الحقيقة أو الشيء من زاوية تخصص علمي معين (تمييزا له عن الابستمي الفوكاوي الذي يكون لا شعوريا و يتحكم في ثقافة عصر معين)، رؤية تؤطر ذهنية العالم، الذات الفاعلة و العارفة. و الرؤية هنا تعني الرائي أولا لا الموضوع المرئي، أي تعني الذات العارفة المنخرطة في الفعل و النشاط و إنتاج المعرفة أو تجريبها أو تحويلها …إلخ. فالذات هنا ليست محايدة و إنما هي معنية بما تقوم به و لا تنتظر من يرشدها لتطبق النموذج الجاهز.

يكمن هنا جوهر اختلافنا مع كل النماذج المطروحة في الساحة التربوية المغربية بالأمس واليوم لأن غايتنا هي أن تصير الذات الفاعلة في التربية والبيداغوجيا (مفتش(ة)، مكون(ة)، مدرس(ة)) ذاتا واعية بالبراديغم المعرفي الذي تنحاز إليه اختياريا لدواعي معرفية او علمية أو سياسية أو إيديولوجية، و هي ذات قادرة على إبداع ممارستها التربوية والبيداغوجية انطلاقا منه كي تكون ذاتا معنية بمصير التربية لا ذاتا مطبقة لوصفات نموذجية، نماذجية كما قال الزمخشري.

لهذه الأسباب يطرح مشكل تكوين المدرسين و انتقائهم و هوية المدرس(ة) الذي نريده لمغرب المستقبل. هل نريد مدرسا فاعلا عارفا معنيا بمصير التربية أم مدرسا مطبقا مقلدا لنماذج؟ هل نريد مفتشا يخلق شروط الفاعلية و يدعمها و يصاحبها و يرعاها أم مفتشا يسهر على تطبيق الجاهز (الكتاب المدرسي مثلا)؟ هل نريد تلميذا فاعلا نشيطا أم تلميذا يتلقى نموذجا جاهزا يحضر في الكتاب المدرسي؟ هل نريد مدرسة متعددة الإيقاعات و الأساليب و الطرق والأزمنة و الثقافات بتعدد المغرب أم ثكنة عسكرية تحترم النماذج كالمقدسات؟ و أخيرا أليس أقصى درجات النماذجية هي الكتاب المدرسي بالذات الذي يلغي الجميع ، يلغي المفتش و المدرس والتلميذ و شروط التعلم برمتها؟

بناء على هذه الاعتبارات و غيرها حددنا منطلقاتنا ونحن نتناول الأفق التربوي والبيداغوجي للمغرب في حلقاتنا السابقة (وأنا هنا أتحدث من موقع الباحث الموضح والمفسر والمتسائل و المثقف المنتقد والمواطن المعني بشؤون المدينة) فيما يلي:

أولا: ارتباط التربية بالإنسانية كغاية الغايات

ثانيا: ارتباط التربية بالمستقبل : مستقبل المواطن والشعب والدولة و الإنسانية جمعاء

ثالثا: ارتباط التعليم بالشعب في تعدده الثقافي و الديني ، ولكن في علاقته بالإنساني ليكون تعليما للإنسانية جمعاء

رابعا: ارتباط التعليم ببناء الدولة الوطنية

نعتقد أن هذه المنطلقات الفلسفية بالأساس تسمح لنا لنفكر في التربية ضمن إطار نظري عام لا يسقط في النماذج و الاختيارات البراديغمية حتى لا تصبح التربية فكرا عسكريا يخضع لأوامر النموذج كما كان الحال مع هتلر و كما هو الحال اليوم مع حزب الله و إيران وكوريا وجميع الأنظمة و الأحزاب الشمولية الكليانية، وحيث يصير المدرس(ة) جنيرالا في القسم يعمل على نقل التعليمات التربوية. وإليكم التصور العام الذي نضعه أرضية للنقاش :

1.فلسفة التربية2.البراديغم البيداغوجي: إطار نظري عام3.هيكلة الاسلاك الدراسية4.التعدد المنهاجي والإيقاعات المدرسية و العدد الديداكتيكية5.المدرسة الشاملة/ المدرسة المجتمع6.مدرس(ة) المستقبل***

لا يمكن أن نتحدث عن أي اقتراح بيداغوجي دون التفكير في الفلسفة تحديدا، أي الفكير في النظام التربوي من جهة الأسس والغايات لأن الأمر يهم بناء وطن أو دولة وطنية ، و بالتالي فإن الاقتصار على النزعة النماذجية تختزل النظام التربوي في الرؤى الضيقة والتقنية كأن مشكل التعليم يرتبط بعلاقة المدرس(ة) بالتلميذ(ة) و المحتوى المدرس.

لمثل هذه الأسباب انتقدنا في الحلقات السابقة الرؤى التقنوية و التقنية و النزوع النماذجي الذي يتعزز اليوم باختزال مشاكل التعليم في الرؤى الديداكتيكية و التنشيطية و التقويمية.

نعلم أنه منذ القرن التاسع عشر كان كل اختيار بيداغوجي يطرح تصورا لماهية المجتمع المراد، وهو ما يعني أن مساءلة النماذج المطروحة في السوق التربوية تكتسي أهمية بالنسبة للمشتغل على الفلسفة السياسية و الفلسفة بعامة، و الابسيمولوجيا بخاصة حتى ننزع عنه قناع الموضوعية، بل ننزع القناع عن الاختيارات البيداغوجية بالذات، و بالتالي فإن وجوب طرح أسس فلسفية لأي نظام تربوي تظل مسألة مستعجلة.

نسجل هنا أن المغرب أنجز الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي اعتبر في حينه إطار تعاقديا بين الجميع لتأسيس مدرسة الجميع؛ غير أن علاقة المغاربة بالميثاق الوطني للتربية والتكوين لم تكن علاقة تراكم البناء والتعاقدات و تجديدها.

و ما يلاحظه المتتبع الباحث أن الفاعلين السياسيين و النقابيين و الدولة لم يحترموا جميعا الميثاق الوطني للتربية و التكوين ، بل لم يراكموا ثقافة الحوار و النقاش حول أسس المدرسة و غايتها ومواصلة ذلك الحوار في ضوء ما يستجد محليا و عالميا.

نتذكر هنا أن إرادة التخلص من الميثاق من جهة الدولة بدت واضحة منذ 2008 حينما صرح المرحوم مزيان بلفقيه من الدار البيضاء قائلا بأنه لو اتيحت له الفرصة ليعيد كتابة الميثاق الوطني للتربية و التكوين لكتبه بشكل آخر. و نتذكر كذلك أنه خلال هذه الفترة كان تشكل المجلس الأعلى للتعليم الذي أصدر تقريره الأول في نفس السنة المذكورة أعلاه. وفي نفس الفترة صدر المخطط الاستعجالي بعد تشكيل المجلس الأعلى.

إن السؤال المطروح هنا على الدولة هو لماذا تم المرور من ثقافة الميثاق الوطني للتربية و التكوين، حيث النقاش و الحوار الجماعي حول أسس المدرسة وغاياتها ليصل الجميع إلى ثقافة التقارير مع المجلس الأعلى و وضع برنامج استعجالي اعتبره الجميع أحاديا؟ ألم يكن من الأجدى طرح الميثاق الوطني لنقاش تقويمي عمومي ، علما بأن الميثاق الوطني يحدد تواريخ و إجراءات و يضع تصورات و برامج عمل و يحدد الجهات و المسؤوليات والشركاء و نسب التمويل و المحاسبات …إلخ؟ فلماذا أغفل هذا الجانب التقويمي؟ و لماذا صمت الجميع ليمر الجميع بدون مساءلة ولا تقويم إلى مرحلة ما بعد الميثاق الوطني للتربية و التكوين ؟ و لماذا استسيغ هذا الأمر من طرف الأحزاب السياسية و النقابات و الجمعيات المهنية؟

لقد كانت أجوبة الدولة غير مباشرة من خلال إشاعة ثقافة التقويم التي اشتغل عليها المغرب وطنيا او انخرط فيها دوليا. و نتذكر هنا أن المجلس الأعلى اشتغل على تقويم مواد متعددة على غرار تقويمات بيرلس و شيمس ، وهو بذلك يريد أن يوجه التعليم نحو رؤية أخرى غير الرؤية التي تحدث عنها الميثاق الوطني للتربية والتكوين. والسؤال هو لماذا انساق الجميع مع هذه الاستراتيجية دون وعي بالآتي؟

إن تقويمات المجلس الأعلى هي استرجاع للتقويم الذي أصدرته اللجنة الخاصة بالتعليم خلال سنة 2004/2005 ، ومعنى هذا الأمر إن إرادة القطع مع الميثاق الوطني للتربية و التكوين كانت حاضرة منذ مدة طويلة قبل تشكيل المجلس الأعلى للتعليم. و السؤال هو: كيف لم يفطن الفاعلون السياسيون و النقابيون إلى ذلك؟

و خلاصة الأمر أن الدولة هي أول من كانت له استراتيجية القطع مع ثقافة الميثاق، أي القطع مع ثقافة الحوار و النقاش و المسؤولية الجماعية، أو لنقل القطع مع ثقافة المشاركة في وضع استراتيجية للتعليم متعاقد عليها ومتفاوض بشأنها و لعل المنهجية التي جاء بها المخطط الاستعجالي تفسر ذلك من نواحي كثيرة ، منها أنه حضر في غياب الفاعلين عامة ، و وتم تصريفه بعقلية بيروقراطية صرفة.

و أما من جهة الأحزاب السياسية و النقابات و المجتمع المدني سنلاحظ بأن الميثاق الوطني للتربية و التكوين قد خلص الأحزاب و النقابات من الاهتمام بالتعليم و التنازع حوله، و يبدو هذا الأمر إيجابيا لأن الجميع اقتنع بأن المدرسة يجب أن تكون مدرسة للجميع، لكنه في نفس الوقت ترك المجال فارغا لتصير الدولة هي الفاعل الرئيسي في التعليم وأن اقتراحاتها هي الاقتراحات وتصوراتها هي التصورات. و السؤال هو: لماذا صمت الجميع لحظة الإعلان عن المخطط الاستعجالي؟ وما ثمن هذا الصمت اليوم؟ و كم سيكلفنا ذلك الصمت؟

إن التخلص من المدرسة الوطنية العمومية باسم الميثاق يعني أن الاهتمام بالتعليم لم يعد اهتماما بأسس وماهية المدرسة الوطنية العمومية، بل إن التعليم في برامج الأحزاب السياسية صار ثانويا ، و صار عند النقابات مطالب خبزية أو مطالب بسيطة تهم اليومي.

لقد كان من الواجب ألا يمر المغرب من الميثاق إلى ما بعده دون نقاش مؤسساتي و شعبي لأن ما بعد الميثاق يجب أن يخضع للمساءلة العمومية و إليكم بعض ما كان ينبغي أن يهتم به السياسي و النقابي و المجتمع المدني:

لنأخذ مثالا عن (بيداغوجيا) الإدماج. نعلم جميعا أن الإشارة إلى تقويم التعلمات وردت في تقرير المجلس الأعلى للتعليم الصادر سنة 2008 ، و لا نجد أي إشارة إلى ذلك في المخطط الاستعجالي، بل لا نجد أي إشارة إلى تبني أي بيداغوجيا ماعدا الاجتهاد الوارد في الكتاب الأبيض و تصور الميثاق الوطني للتربية و التكوين للكفايات.

إذن، نحن أمام صورة واضحة تتجسد في غياب أي اختيار بيداغوجي أو ما سمي في حينه بمشكل النموذج في الميثاق أو الكتاب الأبيض أو المخطط الاستعجالي. فلماذا ألصقت بيداغوجيا الإدماج بالمخطط الاستعجالي وكأنها منه، و كيف تم ذلك؟ و أين الفاعل السياسي والنقابي من الأمر البيداغوجي؟ و هل يبدو من الواجب العقلي والسياسي أن يختار للمغرب نموذج بيداغوجي من طرف مسؤول وزاري بدون نقاش سياسي؟ فلماذا صمتت الأحزاب و النقابات عن ذلك؟

إن حالة التخلص من التعليم لدى السياسيين و النقابيين بدت ظاهرة منذ عهد الميثاق ، حيث كان الجميع يتحدث عن الميثاق و أجراته و تنزيله ، ثم انتقل الجميع ليتحدث عن البرنامج الاستعجالي بين عشية و ضحاها دون توقف و لامساءلة و نقاش حول مصير المدرسة، وهو ما يتجسد اليوم فعليا من خلال غياب النقاش حول تقويم وافتحاص البرنامج الاستعجالي ككل.

لنذكر أن المدرسة هي مدرسة الجميع و أن استعجالية العودة لمواصلة النقاش حول الميثاق الوطني للتربية و التكوين أمر راهني وملحاح لأنه لايمكن أن نتحدث عن اختيارات بيداغوجية دون وضع أسس لتعليمنا و تحديد غايات له في ضوء ما يستجد وطنيا و عالميا؛ ولذلك على الدولة تحديدا أن تفكر في بالاستراتيجيات البعيدة المدى، و على الأحزاب السياسية والنقابات أن تتخلص من ثقافة رجع الصدى والببغاوية و أن تبادر إلى جعل التعليم ورشا فكريا مفتوحا لإيجاد مرجعية لبناء مستقبل الجميع في دولة الجميع و وطن الجميع.

****

تحدثنا في السابق عن وجوب تجديد التفاوض و الحوار والنقاش حول ميثاق تربوي جديد ينطلق مما تراكم لدينا منذ الميثاق الوطني للتربية والتكوين، حيث سيتضمن منطلقات كثيرة كالتفكير بالمواطنة و الإنساني و الكونية و العصر الافتراضي، و استحضار التعدد الجهوي و الثقافي و الديني و اللغوي و الهوياتي و استبعاد المذهبية و العرقية وكل ما له صلة بهذا الجانب. و أن يجعل المدرسة تعيش التعدد الغني للمغرب بامتياز، متستحضرة إياه في إيقاعاتها الزمنية و لغات تدريسها و مناهجها و برامجها الدراسية وعددها الديداكتيكية و براديغماتها البيداغوجية.

إن هذه المنطلقات هي التي ستحدد لنا أي براديغم بيداغوجي ينبغي الوعي به و التفاوض المعرفي بشأنه لأنه يحقق الغايات من التربية بالنسبة لنا، وهو ما يعني أن الاختيار البيداغوجي ينسجم والاختيارات السياسية الكبرى التي نتوخاها لنوع المجتمع و المواطن الذي نسعى إليه، أو بعبارة أخرى لا وجود لاختيار بيداغوجي بدون اختيارات سياسية كبرى متعاقد بشأنها. و بالتالي فإن كل اختيار بيداغوجي هو تعاقد المجتمع مع ذاته حول الوعي بالممارسة التربوية وغاياتها.

و لهذا فإن التعاقد حوله الاختيار البيداغوي يجب أن يراهن على ما يلي:

أولا: التعاقد حول قيم العدالة في الاكتساب المدرسي.

ثانيا: التعاقد حول الانصاف في الفضاء المدرسي.

ثالثا: التعاقد حول تكافؤ الفرص في الولوج إلى الفضاء المدرسي و الاستفادة منه.

رابعا: التعاقد حول احترام الطفل- الإنسان- الفرد.

خامسا: التعاقد حول احترام الطفولة وكل ما يرتبط بها.

سادسا: التعاقد حول تعددية استراتيجية التعلم لدى المتعلم(ة) .

سابعا: التعاقد حول الكفايات الأساس للسلك الدراسي أو الكفايات النواة للمستوى الدراسي أو الكفايات المفتاح للمدرسة ككل بما يجعلها مدرسة من أجل المستقبل تكسب المتعلم الكفايات التي تجعله قادرا على ربح مستقبله.

تاسعا: التعاقد حول البنيات الأساسية للمؤسسة التعليمية لتحقيق الانصاف و تكافؤ الفرص بين جميع أبناء الشعب و بين جميع الجهات و المناطق..إلخ.

سيلاحظ القارئ أن البيداغوجيا التي يمكن أن تستجيب لهذا التصور العام هي البيداغوجيا الفارقية من حيث أنها براديغم عام يستحضر الفلسفة (بناء الذات) و الفرد (الفرد في فرديته) و الفوراق الفردية ، والشخص (السمات المميزة)، و الجوانب الاجتماعية كالثقافة و المستوى الاقتصادي …إلخ ، علاوة على إيمانها بالتعدد المذكور أعلاه ، و إيمانها بالغايات الكبرى المذكورة سابقا كذلك.

كما أن هذه البيداغوجيا تنهل من بيداغوجيات كثيرة منها بيداغوجيا الأهداف و بيداغوجيا النجاح وبيداغوجيا الخطأ و بيداغوجيا اللعب ز بيداغوجيا المشروع…إلخ. كما أنها تقبل بتصورات ديداكتيكية متعددة ، و تنفتح على حقول معرفية كثيرة كالسيكولوجيا الفارقية، و الذكاءات المتعددة ، والسيكولوجيا المعرفية بعامة، و السوسيولوجيات الثقافية و الماركسيات الجديدة كما عرفت مع السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو و والسوسيولوجي السويسري فليب بيرنو وغيرهما، و الانتربولوجيا …إلخ.

لهذه البيداغوجيا تداعيات كثيرة مرتبطة بها لزوما . وإليكم بعض تداعياتها.

أولا: تداعياتها على الأسلاك الدراسية

إن البيداغوجيا الفارقية هي الصراع ضد الترتيب والتصنيف المسبق للمستويات الموروثة عن القرن الثامن عشر، و ضد هيكلة الاسلاك كما يتعارف عليها العالم النيوليبرالي الذي يريد من التعليم أن يكون إلزاميا إلى حدود السنة التاسعة من التعليم الأساسي، بل إنها تصارع ضد أساطير احتفالية المؤسسات التي تصنف المتمدرسين إلى مجتهدين و غير مجتهدين و تجعلهم ضحية أوهام الفشل بدل النجاح المدرسي و بناء الذات.

وهكذا فإن البيداغوجيا يمكن أن تكون حلا للتعدد ذاته ، تعدد المستويات و تعدد الأعمار و تعدد الاستراتيجيات بما يجعل هيكلة الأسلاك تقطع مع تعدد المستويات لتكتفي بالسلك كمستوى دراسي واحد. وفي هذه الحالة ينصب الاهتمام على الكفايات النواة أو الكفايات الأساس للسلك الدراسي ، وكفايات التخرج أو نهاية السلك الدراسي؛ و ذلك ما سينعكس على العدة الديداكتيكية و الكتاب المدرسي و الحرية البيداغوجية للمدرس(ة) وكل ما يرتبط بهذا الباب من تكوين أساس و تكوين مستمر.

ثانيا: تداعياتها على العدة الديدياكتيكية

سيكون الاشتغال بالبراديغم الفارقي المرتبط بالبيداغوجيا الفارقية تحررا من إكراهات التوحيد و التنميط الديدياكتيكي لأن المدرس(ة) ينطلق من الفرد-التلميذ ، ومن جماعة القسم او المجتمع المدرسي ككل، ومن الكفايات الأساس للسلك الدراسي ، وهو مزود بمعارف أساسية في السوسيولوجيا و السيكولوجيا و الانتربولوجيا واللسانيات ، علاوة على المعارف المدرسية و البيداغوجية و التنشيطية.

ستكون عدته الديداكتيكية هي التحرر من إكراه التنميط والوحدة القاتلة، و ستكون اختياراته التربوية مسؤولة وحرة لأنه أصبح يدرك الغايات الكبرى للنظام التربوي و غايات السلك الدراسي و يجهد نفسه ليجعل الطفل في مركز اهتمام النشاط المدرسي؛ وبذلك تنتفي سلطة الكتاب المدرسي لتفسح المجال للإبداع و البحث و الحوار والنقاش بين مجتمع المربين والمربيات كلهم، و بالتالي تصبح المكتبة المدرسية و قاعة الاعلاميات و الزيارة والاستطلاع و مختلف الانشطة من الدرس ، أو لنقل جزء من بناء التعلمات.

ثالثا: تداعياتها على المسار التعلمي للتلميذ(ة)

إن الاشتغال على الفوارق في تعدديتها كما ذكرنا آنفا يعني الاعتراف بتعدد استراتيجيات التعلم و القطع مع الدرس المتبوع بالتمارين . إنه الإيمان بالحق في الاختلاف بين الأطفال من حيث استراتيجياتهم التعلمية وإيقاعات تعلمهم (البصري أو السمعي منهم …إلخ).

يستحضر الاعتراف بهذا الجانب التعدد الثقافي و اللغوي للطفل ، و يطال التعدد المناطقي و الجغرافي كذلك ليجعل المدرسة تعيش أزمنة المغرب المتعدد.

رابعا: تداعياتها على تكوين المدرسين والمدرسات

لا يمكن أن نلج مثل هذه البيداغوجيا كنموذج يستلهم أو يقتدى به أو يعمل به بناء على وصفة يضعها الخبير لأن البيداغوجيا الفارقية تتطلب تكوينا متينا يستحضر علوم التربية و العلوم الانسانية بالأساس، بل يستحضر الاشتغال على ما يعاكس ثقافتنا البيداغوجية الحالية المبنية على النماذج و التنميط والتوحيد.

هناك جوانب كثيرة في تكوين المدرسين و المدرسات ترتبط بالبيداغوجيا الفارقية أولها الجانب الأكاديمي المرتبط بالمادة الدراسية أفقيا من الابتدائي إلى الثانوي و امتداداتها في المواد الأخرى و في المعيش اليومي، و الجانب الثاني يتمثل في علوم التربية و العلوم الإنسانية (فلسفة التربية و سوسيولوجيا التربية و المدارس السيكولوجية)، وفي غياب هذا التكوين الأساس لن تدرك أهمية البيداغوجيا الفارقية من الناحية الأكاديمية والمعرفية.

و اما من الناحية السياسية فيجب أن ينصب التكوين على القيم الإنسانية المعاصرة كقيم الحق والعدالة والإنصاف و حقوق الطفل و الطفولة والتسامح و الاختلاف و التنوع والتعدد، علاوة على القيم الوطنية والمواطنة. و لبلوغ ذلك علينا أن نفكر في تعاقد جديد حول مهن التعليم و القطع مع مفهوم منصب الشغل و طرق الانتقاء الحالية ، لنصل إلى مرجع كفاياتي لمهن التربية و التكوين.

و من الناحية المهنية ينبغي أن ينصب التكوين على أخلاقيات المهنة و على محاور كبرى منها المواطنة الكونية والهوية المحلية، والعولمة الاقتصادية و الانغلاق السياسي ، والحرية واللامساواة، والتكنولوجيا والنزعة الإنسانية، والعقلانية و التعصب، والنزعة الفردانية وثقافة الحشود، والديمقراطية و التوتاليتارية.

لكن ينبغي ألا يظل التكوين نظريا خالصا و نحن نعد مدرسنا و مدرستنا لولوج عصرهما ؛ لذلك يجب أن يتصف كل منهما كما قال بيرنو بما يلي:

– شخص ذو مصداقية؛

– وسيط بينثقافي ؛

– منشط لمجموعة تربوية؛

– ضامن للقانون؛

– منظم حياة ديمقراطية؛

– معد ثقافي؛

– مثقف.

ومن جهة المعارف والكفايات التي يجب أن يتوفر عليها المدرس(ة) يقترح علينا فليب بيرنو الكفايات التالية:

– منظم لبيداغوجية بنائية؛

– ضامن لمعنى المعارف؛

– مبدع لوضعية تعلمية؛

– مدبر للتنوع؛

– معدل للسيرورات ومسارات التكوين[3].

و بناء على هذا التصور يستحيل تكوين مدرسين بتصور تقني خالص لأنه ببساطة لا وجود لهذا التصور، وبالتالي فإن المدرسين في حاجة، في ظل مجتمع يتحول، إلى القدرة على التجديد والتفاوض وممارسة التأمل وتعديل الممارسة. ولن يتم ذلك إلا بتأمل التجربة وتكوين معرفة جديدة والورطة النقدية لأن المجتمع في حاجة إلى مدرسين منخرطين في النقاش السياسي حول التربية على مستوى المؤسسات والجماعات المحلية والمناطق والوطن كله، وليس على مستوى الرهانات النقابوية وحدها. يجب، إذن، توريط المدرسين في مناقشة الغايات والبرامج والمناهج وبرامج المؤسسات المدرسية ودمقرطتها ودمقرطة ثقافتها وتدبير النظام التربوي…إلخ.

قلنا إن تكوين المدرسين يرتبط بالرؤية للمدرسة التي تستهدف دمقرطة الولوج إلى المعارف وتنمية استقلالية الذوات ونقديتها وكفاياتها وقدرتها على الدفاع عن الرأي. ولن يتم ذلك إلا بالمرور من الاعتراف بالاستقلالية والمسؤوليات المهنية للمدرسين فرديا وجماعيا.

وفيما يلي بعض المنطلقات المقترحة من قبل بيرنو لتكوين المدرسين من مستوى عال:

– النقل الديداكتيكي المؤسس على تحليل الممارسات وتحولاتها؛

– مرجع للكفايات يحدد المعارف والقدرات المكتسبة قبليا؛

– مخطط للتكوين منظم حول الكفايات؛

– التعلم بالمشاكل: الطريقة الإكلينيكية؛

– تمفصل حقيقي بين النظري والتطبيقي؛

– تنظيم مجزوءاتي فارقي؛

– تقويم تكويني مؤسس على تحليل العمل؛

– أوقات وعدة للإدماج وتعبئة المكتسبات؛

– شراكة متفاوض بشأنها مع المهنيين؛

الحسن اللحية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى