ثقافة و فن

قصة قصيرة ( المتاهة ) للقاص محمد نايت علي

قصة قصيرة ( المتاهة ) للقاص محمد نايت علي

أنفاس بر بس 24: بقلم القاص  محمد نايت علي

..يا صديقي لم أستطع أن أنام تلك الليلة و أنا أمشط الذاكرة باحثا داخلها عن النور الذي لم و لن يشرق من نافذة الصباح في اليوم الموالي. كذب الأمل بشأن الحقيقة و ترك الضفاف خالية, و لم يحذر المسافرين أن عاصفة هوجاء سوف تلقي بهم داخل عواصف أخرى. كذب الأمل حين لبس ثوب التقية و زينة الحكماء و تمختر في مشيته و هو يتحدث عن النجاة و الفلاح.

يا صديقي كنت أعاتب نفسي دوما لما لم أصلح المركب في الوقت المحدد, و أقطع تلك المسافات الطويلة. لما كنت عاجزا عن الحركة و الكلام و كأن الموت يحيط بي من كل مكان, لما كنت خجولا من الحديث عن العاطفة وسط العاصفة, كأن السحاب يفرد جناحه لينتشلني, لكني عجزت عن التحليق معه, كنت أخشى السقوط السريع نحو الهاوية, غير مدرك أن الهاوية هي موطئ قدمي الآن, و هي محل سكناي. يا صديقي كنت خجولا من النظر للسحب مرة أخرى, كأن بصري ما عاد له في الأفق مكان للنظر, يا صديقي تبتلع بعض الكلمات جوهر المعنى ولست بقادر أن أكسبها ما أشاء من المعاني علها تعبر للسحب عن أسفي و تقدم اعتذاري في أبه حلة فأنا أريد أن أنظر للسماء من جديد دون الشعور بالخجل.

يا صديقي أشعر أن الكتابة متناسقة حين تبتدئ بندائي لك, أشعر أن المسافة للحديث واسعة و شاسعة و متشعبة, أخبرك يا صديقي أن الحياة قاسية كما تعلم, قاسية جدا, و لا أظن أن الناظرين لها بعمق أمثالنا يشعرون فيها بالهناء.. ألا ترى كم هي معقدة هذه الحياة؛ حين نحاول أن نعرفها أو نسرد مكامنها نغوص بالتعقيد أكثر فأكثر, هي غير قادرة حتى على تقبل اللغة كما لا تتقبل وجودنا بها أيضا. يا صديقي كنت أحاول في أحد الأيام و أنا في مكان بعيد أن أميز بين نفسي و بين الآخرين و أنتشل كل جزء عالق مني وسطهم لكن أتعلم أني لم أجد أي شيء مني بينهم كي أسترده من جديد, لا أخفيك سرا أني شعرت بالخيبة و الحزن لكن شعرت أكثر بالغربة, كنت أرغب بالبكاء أيضا لكن كما تعلم لسنا صادقين إلى هذه الدرجة مع ذواتنا, لكني فعلا تمكنت من البكاء رغم أني شعرت بالقليل من الخجل يعاتبني, لكن لم ألقي له بالا, كنت أرغب فقط أن أشعر بتحسن طفيف.

كأن لي أملا في إعادة صياغة القصيدة بالشكل الذي يناسب الوضع و الهوية, كأن كل السنوات التي قضيتها بالحياة هباء منثور لم يسعف مزيج اللحظات في بناء شيء ما و يكسبه معنى ما. قد تبدو علامات الوقت في الكلام فصيحة لكن حين تكون اللغة قوية و صلبة فإنها تصبح غامضة و تضج بالمعاني المتناقضة, و يصعب حينها التحكم بها لأنها خرجت من غير طواعية عن السيطرة, سيطرة الكاتب و سيطرة المعاني المؤلمة.

يا صديقي كنت قد أخبرتك يوما عن الأمل و العمل و الخير و السلام, و كنت حينها سالما من الوعي التام بالحقائق, لكني أراك الآن تمر بمحاذاتي و أنت باسم الثغر تخفي بين نواجذك الكثير من الدلالات و الإجابات, و أنا الذي أدركت ضحكتك الماكرة شعرت بالخجل و الهزيمة؛ الخجل في الحوار و البحث عن عذر للهزيمة في الرهان بيني و بين السنين. كان يكفي ذاكرتي القليل من داك العطر الغريب كي أشاهد في رحلة عبر الزمن كلماتك الأخيرة قبل السفر إلى الوعي وعيك و تترك لي رسالة محفوفة بالغموض لم أدرك معانيها إلا حين قررت أن أعود لنفسي من جديد و أكون أنا, و أبدء في نسج المتاهة من جديد لكن هذه المرة بكل وضوح دون لف أو دوران.

و يا صديق كم تلتف الكلمات على الجذوع لتصنع مجدا للمعنى, و كم تحاول هشاشتي أن تقيم و تستقيم على خط الطريق الطويل, لكن الخصم ماكر و قوي. و أنا لست سوى غريب تائه في خضم نفسه لا يدرك كيف تعزف الحمامة لحن زواجها, و لا كيف تستيقظ الزهور في الحديقة كل صباح, و لا علم عندي عن سر تواضع الطاووس في مشيته. يا صديق حروف الكلمات أقوى من مخيلتي فلا تسئ فهم العاطفة و لا تجرح ما تبقى من عواطف من الحرب العالمية الأولى و الثانية. عانق السماء و أنت تتلو على النسيان ما تبقى مني عندك, و لا تدعي أنك لا تدرك المعنى أو أن لغتي مجاز لم يبلغ الضفة الأخرى. فقط لا تسئ فهم الكلمات و لا تحملها ما لا طاقة لها على تحمله, و أحملها برفق حتى لا تنكسر فقد ورثت عني الهشاشة و الضعف.

و يا صديقي أخسر كل يوما حلما و جزءا كبيرا من حلم كبير, فما عاد يكفيني الليل بطوله في الشتاء لأعيد صياغة نفسي كما تشتهي تقلبات الحياة. ما عاد في الوقت متسع للبحث عن ما تخلفه الكلمات خارج السياق أو داخله, ما عاد الشخص الذي لم تعرفه يوما ذاك الشخص الذي يعرف نفسه, فقد ترك نفسه في الصحراء الشاسعة دون بوصلة تعيده إلى معاني لا معنى لها, هجر كل شيء فجأة و تاه فجأة و مازال يحلم أن يعود أيضا بشكل مفاجئ.

من الكاذب و من الصادق يا صديقي, هل كلماتي لم تبلغ قمة الجبل بعد لتنظر بوضوح لكل شيء و تكف عن الثرثرة أمام الواقع المحتال, أم أن الغريب سحابة تائهة في خضم الفوضى و الرعود, و لا يقوى على ربط خيوط الحكاية بالشكل الصحيح و الفصيح, و يا صديقي هرمت كلماتي في ربيع العمر و هرمت لغتي. فمن الصادق؟ أنا أم ظلي, أنا الذي يركض خلف كل المعاني بكل جموح باحثا في الجموح عن معنى مستقيم, و عن كلمة فصيحة تخبر الناس بكل شيء دون هذا العناء الكبير في بلوغ التفسير الصحيح.

يا صديق..

لكم هو محزن أن نرى حياتنا تمضي بالطريقة التي لا نشاء, لكم هو محزن أن نسير وفق خطة ما خارج نهج عقولنا و رغباتنا, لكم هو محزن أن تشعر بالسجن بداخلك يضيق بك أكثر فأكثر كلما غصت فالأشياء, و الأشخاص, و الأفكار.

عقلي منهك من نسج الحلم تلو الحلم دون أن أرى أملا في تحقق هذا الحلم, و مداد لساني سينفذ عما قريب دون أن أبلغ نهاية الطريق الطويل, اللحن يسري في العروق يوقظ الكثير من التفاصيل, و يعبث بالسياق و بالنهج الصحيح في التعبير, يخرج السياق عن السيطرة و تختلط علي الأمور من جديد. يا صديقي لكم نحن غرباء أينما حل بنا هذا الأمل السقيم.

يا صديقي نظرتي ترتد نحوي لم تعد ترى أي شيء هناك, إنها تنال مني, و هذا السحر ينقلب علي و يجتر كلماتي و يلقي بنا معا في المجهول البعيد و الوحيد.

أين نسير الآن..

قبل زمن طويل من الآن في مكان بعيد, بعيد جدا, كان أحدهم يعيش بسلام..تبا أنا أريد الكتابة الآن لكن كل هذا الصخب من حولي يشعرني بالجنون, يبدو أني سوف أؤجل هذا الأمر إلى وقت لاحق, لكني أشعر الآن برغبة جامحة في الكتابة..حسنا لنواصل, قلت كان هناك أحدهم في مكان بعيد و و.. ولا داعي لتكرار الأحداث فقد ذكرت آنفا. على أيْن هذا الشخص كان بسيطا جدا في كل ما يتعلق بحياته في المأكل و الملبس في الكلام  في كل شيء, كان بسيطا لدرجة التهور في بعض قراراته, لأنه يمنح أي شخص ما يشاء, لكنه لسوء الحظ لا يمنحني رغبة كبيرة في الكتابة عنه, بالإضافة إلى هذا الضجيج الكبير.. لا بأس لطالما عاندت الظروف الرغبات لكن أن تعاند الكتابة أمر يشعرني بالغضب و بالخوف في نفس الوقت, الخوف من أن لا تعود تلك الكلمات التي كان من المفترض أن تخرج الآن, خصوصا و أن الرغبة شديدة في الكتابة و محاولة الإبداع  في هذه اللحظات…

دعونا نترك قصة الرجل البسيط جانبا و نؤجلها إلى وقت لاحق و لنتحدث عن الكتابة نفسها ..لكن لسوء الحظ  فقدت في هذه اللحظة الرغبة في فعل أي شيء , و سوف أضع نهاية لهذه المهزلة, ذلك بأن أخبر نفسي شيئا ما و أتمنى أن تولوا سمعكم جانبا لأني لا أريد من أي شخص كان أن يعلم عما يدور بيننا في هذه اللحظات, الحوار سيتخلله بعض من القسوة و الصراحة الجارحة للكرامة, كرامتي بطبيعة الحال, حسنا اسمع يا أنا, أنا لن أقسو عليك كما قلت سابقا فأنا أحبك و لو لم أكن كذلك ما منحتك كل هذا الوقت لتعبر عن سريرة نفسك, و تبوح في فضائي بخواطرك. أنت لطالما ظننت أن الحياة يمكن أن تحكمها أعرافك و أفكارك و كل ما تعلمته على يد الطريق الذي سلكته من سنين, لا أرجوك لا تكن سخيفا. لا تحاول أن تغض الطرف عن هزائمك السابقة, فأنا أخشى عليك من نهاية وشيكة تفقد فيها نفسك بعد أن تمكنت من بناء جزء كبير منها على الشاكلة التي تريد, وها أنت الآن تسعى بنفسك للهلاك دون أن تعي صنيعك هذا..هذا الشخص أحمق فعلا انه لا يعلم الطريقة التي يجب من خلالها مسايرة كل الهواجس و الأحلام كل الأماني و الرغبات,لكن من يدري فربما كانت هذه نهاية كل شيء, بل و سوف تحين لحظة الحقيقة, المرة بطبيعة الحال, ثم لن أضطر بعد ذلك لمجابهتك يا ذا الأفكار الغريبة المتناقضة.

حسنا حتى الآن ما زلت في ود كامل و كلماتي لم تبلغ درجة الغليان التي هددتك بها أنفا, أنت تعلم أني على صواب كما تعلم أنك على صواب أيضا لكن الحلقة المفقودة في كل هذا العبث هي…في الحقيقة أنا لا أدري فلو كنت على علم بها ما سلكت معك طريق العاطفة هذا كنت لأتوقف عند المحطة السابقة و أدفع لك تكاليف الرحلة, ثم أتمنى لك حظا طيبا و رحلة آمنة رغم علمي المسبق أنها لن تكون كذلك, وأنها و إن كانت فلا شك أن يتخللها الكثير من الهيجان و التقلب.ثم امضي أنا في حال سبيلي ..

القارئ لحد الساعة لم يدرك المغزى من كل هذه الفوضى, لكن أين القارئ, أتظن حقا أن أحدهم تجاوز العنوان بقليل و نظر لذلك الفراغ الطويل ثم استرخى و اطمأن ثم ولى مدبرا كأن لم يره, و إن كان هناك قارئ يتابع هذا الحديث فلا شك أنه رحل حين أدرك أن البطل في هذه القصة هو نفسه, لم يصدق أن الكلمات كانت تشير إليه, تجرده من كل ما يخفي عن نفسه, لابد أنه حاول التوقف عن القراءة لكن الفضول لمعرفة المزيد عن نفسه دفعه نحو الاستمرار, رغم أن التردد لازمه طوال الوقت لكنه في الأخير قرر الاستمرار..المسكين سوف ينهار عندما ينتهي, سينتهي عندما ينتهي من قراءة أخر الحقائق عن نفسه سيلعن نفسه قبل الشخص الذي كتب له عن هراء أفكاره, و ربما قرر رفع دعوة ضد الكاتب لأنه يفضح أسرار الناس أمام الحروف سيسخر من نفسه قبل أن تسخر منه المحكمة, و قبل أن يضربه القاضي بمطرقته الخشبية. تذكر للحظة أنه مازال آمنا في سره و كل ما قراءه لم يكشف الغموض عنه. أحس أن الكلمات تهينه بل و تجرح كبريائه, طرح الكثير من الأسئلة لكنها غبية كلها و تفتقد للعمق, صحيح أن بعضها منطقي و صريح لكنه يتضمن في طياته الكثير من الهراء والبلاهة.

أحدهم أعجب بكل تلك الأفكار التي تضمنها النص, أحب عيوبه و نظر بعمق في كل الكلمات لكنه وقع في ورطة كبيرة حين حاول أن يكتشف عيوب السرد و النحو و كل تلك الشكليات المملة, ها هو أيضا بدء الشك يتسرب إليه لينجو من هذه الورطة ها هو أيضا تتكشف له عيوبه, ليس عيوب نقده للشكل, لا لابد أنه ذهب أبعد من ذلك بكثير و لابد أنه أعاد قراءة الفقرة السابقة بتمعن و أحس بالخجل غادر تركيزه ساحة النص و سارت شفاهه ترى رسم الحروف فقط, المسكين لا يريد أن يترك النص و يرحل لكنه يرجو أن ينهيه بأسرع طريقة ممكنة دون التعمق في المعاني, لكن شيئا مثل السحر سوف يستولي عليه, سيجد أن الكلمات واضحة جدا و أن المعاني أوضح بكثير..ها هو الآن ينهار رويدا رويدا, لكنه سينهي هذا النص ثم يرحل و هو مهزوم.

الأثر الذي ستخلفه الأحداث المقبلة في هذه المتاهة تعدل في فعلها ما تخلفه الكوارث و الأزمات, من يدري فربما خرج الناس في كل أرجاء العالم في مظاهرات عارمة مطالبين بمحاكمة الشخص الذي كتب هذا الهراء.. لن يصل إلي أحد على كل حال أما السبب فأنا متأكد من أن الجميع سيدركه في الوقت المناسب.

مازلت لحد الآن أبحث عن صيغة مناسبة لسرد التفاصيل الخطيرة والغامضة عن كل شخص على حدا في هذا العالم, بطبيعة الحال الصيغة التي تحمل في طياتها الكثير من الرعب و الخوف, لكن الأروع أنها بالمقابل سوف ترسم معالم أخرى لحياة كل فرد على حدا..هذا جيد

ألان صار الكثيرون يلتحقون بالركب, الكثيرون يرغبون في التعرف على جنون لحظة من لحظات كاتب مجنون يصف نفسه بهذا الاسم فقط لان كلمة “كاتب” تزين كثيرا نصه و تمنحه القليل من القوة بل و الشرعية كذلك, أحدهم انتبه لهذه الجملة الأخيرة كررها كثيرا قبل أن ينتقل للجملة الموالية, تسرب إليه الأمل و برزت نواجذه حتى كاد يقهقه, شعر أنه مميز أكثر من الجميع, لم يرغب في قراءة السطور التالية بل قاوم نفسه كثيرا, قبل أن يستسلم لشيء ما مثل السحر استولى عليه مرة أخرى و جعله يتابع القراءة, لكن المثير في الأمر أنه عندما لاحظ أني قرأت أفكاره صعق و توقف عن القراءة بل وعن التفكير أيضا, أحدهم لعن الشيطان حين وصل لهذه المرحلة, وأحدهم لعن الكتابة, والكثيرون وهم التافهون و البلهاء مازالوا يقرئون حيث أن السحر لم يستولي عليهم بعد و ربما لن يستولي عليهم أبدا..أنا لن أتحدث عنهم الآن و من يدري قد أهملهم بشكل قاطع..

لنتابع..

هذه الكلمة جعلت البعض يعيد قراءة الفقرة السابقة من البداية بحثا عن تناسق الأحداث, أما الذين استمروا في القراءة فقد تملكهم شعور بالتمييز و الفخر لكن لسوء الحظ هم أيضا عندما وصلوا لهذه الجملة نظروا نحوا بداية تلك الفقرة و ترددوا كثيرا في إعادة قراءتها, تردد ثم تردد وفي النهاية أعادوا قرأتها حتى  و إن أصر بعضهم على أنه لن يعيد قرأتها فهو لا محالة سوف يعود حين أخبره بسر عجيب أو أكثر من سر واحد حول تلك الفقرة المشئومة, قبل أن تعود لقراءة تلك الفقرة  ـ ولابد أن تكون الآن قد عدت أكثر من مرة ـ تأكد من شيء واحد هو أنها مجرد حروف ولا داعي لكل هذا الخوف و الارتياب فقط تابع و استمتع و تعلم..

لنتابع الآن و لندع كل هذا الهراء جانبا, لكن معذرة أنا أيضا سوف أعيد قراءة تلك الفقرة ثانية فقد تهت, لأن المثل يقول..بعضكم استطاع معرفة  المثل قبل أن اكتبه, و بدأ الكثيرون يتساءلون عن ماهية هذا المثال و تمنوا كثيرا أن آتي على ذكره بعد هذه الإشارة البسيطة و جس النبض, فكرت كثيرا و لأول مرة قبل أن أقرر أن أخبرهم عن المثل الذي سأضربه لهم ـ وسوف أغض الطرف عن الحديث عن أولئك الذين بحثوا عن سياق المثال و أولئك الذين سيعودون الآن ـ حيث أن المثل يقول.. لابد أنكم لستم بهذا الغباء وأنا لا أود أن أهين ذكائكم و فطنتكم لذا لن أكتبه الآن, و بالمقابل سوف أمنحكم فسحة قصيرة داخل هذا الهباء وسوف أخبركم بطرفة لطيفة عن أحد أعز أصدقائكم و سوف تضحكون كثيرا, بعضكم سيبتسم و البعض قد يقهقه والبعض الأخر قد ينفجر ضحكا. أعلم أنكم تتساءلون الآن كيف أعرف أصدقائكم, في الحقيقة يجب أن تتساءلوا منذ البداية كيف أني أعلم عنكم الكثير..حسنا بعضكم قد تذكر فعلا تلك الطرفة و هو الآن يقرأ و يبتسم, أما الذين لم يتمكنوا من ذلك فسوف أخبرهم شخصيا حين أضع الكثير من النقاط المتسلسلة و عليكم أن تنظروا صوبها بتمعن حيث هناك بعض الذكريات المضحكة مع شخص ما, أنظروا الآن بتمعن . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أنتم الآن تضحكون تشعرون بالسعادة و هناك من يتحسر على الأيام الخوالي, ربما تشعرون بالأسى و الحزن لأن حاضركم ممل و قاسي و تعتريه العقبات و تنتفي منه البساطة, هناك من يشعر بالوحدة و الضياع, هناك من شعر بالغربة, و هناك من قال: تجربة الغربة و الضياع. أنا آسف لأني أخرجتكم من جو الفكاهة إلى جو الكآبة, عودوا فقط لتلك السطور و تأملوها ثم ابتسموا و احذروا أن تعيدوا قراءة بداية هذه الفقرة مجددا..

لقد منحتكم فسحة, هذا كرم مني فأنا أشفق على كل من يجاهد بنفسه و وقته و عقله حتى يتم هذا النص, و أكثر فئة أشفق عليها هم التافهون لأنهم ببساطة يقحمون عقولهم الصغيرة المجهرية في بحر هائج قد يسلبهم أرواحهم و أكثر ما يشعرني بالسوء و الغضب معا هو أنهم يسخرون من هذه الحقيقة عن أنفسهم و لا يلقون لها بالا..

الآن سوف نتعمق أكثر من ذي قبل في دواخلكم, إنها اللحظة المناسبة لفعل ذلك, و أتمنى ألا تبدو أي مقاومة لأنه كلما قاوم أحدكم كلما توغل السحر بداخله أكثر فأكثر و كلما جرد من دفاعاته و سقط دفعة واحدة حينها لن يكون الأمر ممتعا على الطلاق.. أنا لن أكون تقليديا أو كلاسيكيا و أطلب منكم أن تغمضوا أعينكم و تسترخوا لا لن أفعل ذلك… أنتم تتساءلون الآن عن طريقة التوغل في عقولكم غافلين تماما عن قضية مهمة جدا القلة القليلة فقط هي من تمكنت من إدراكها و لن أخبركم عنها أبدا لأنها بيت القصيد في كل ما سبق أما أولئك الذين تعرفوا عليها و هم نادرين جدا فطوبى لهم.

حين تخلد للنوم في هذه الليلة سوف تفتح عينيك في ظلام غرفتك و تنسج أحلاما كثيرة تروي بطولاتك, سوف تنسج خيوط حكاية على الشاكلة التي تريد, ثم تنام و ترتاح من تعب المتاهة التي أنت بداخلها الآن, و سوف أخبرك شيئا, سوف تحلم بحلم غريب في هده الليلة و سوف أحدثك عن تفسيره عندما تستيقظ, أما الآن فدعك من القراءة و انتظر الليل إن كنت  تطالع هذا النص عند الظهيرة أو بعد الزوال أو صباحا..أرجو حقا أن تتوقف عن القراءة الآن كي تنجو, أما إن قررت الاستمرار فذلك خيارك لكنك سوف تشعر بالوحدة لأن الجميع أقصد الأغلبية توقفوا عن القراءة الآن, أحلاما سعيدة إذن.

 

 

 

 

..في الحقيقة لا أحد توقف عن القراءة, الكل تابع سرد قصته على نفسه و لم يلقوا بالا لكل ما قلت قبل أن أخلد للنوم, يبدو أني الوحيد الذي ارتاح في زمن الماضي و تنفس بعمق و اطمئن قبل أن يعود الآن ليتابع سرد  تفاصيل غامضة أكثر من ذي قبل عن كل شخص حول العالم.

لاحظ الجميع أن اللهجة تغيرت, شعر معظمكم بهدوء جميل الآن, وتناسى الجميع قضية الحلم و تفسيره, ونسي الجميع أن يسأل نفسه لماذا مازلت مستيقظا حتى الآن, ما الذي يحدث يا ترى؟ لماذا عاد الخوف و الارتياب فجأة للبزوغ؟.. وغيرها الكثير من الأسئلة التافهة بطبيعة الحال.

ماذا تعلمتم في صغركم أنتم يا معشر القراء و المطالعين؟ القارئ لا يطالع كثيرا أما المطالع فهو ولوع بالقراءة, أجيبوا الآن على السؤال بل حاولوا الجواب, اشك في أن أحدا منكم سوف يفلح في ذلك, سوف ترسبون جميعكم في هذا الاختبار الصعب, رغم أن ثلة  منكم استصغروا السؤال للوهلة الأولى و ظن الجميع أن الجواب يستثير في ظلمات اللاوعي, الآن لكم من الوقت ما تشاءون للبحث عن جواب مقنع..لم تجدوا شيئا مقنعا حتى الآن فقد أدرك الجميع أن الصغر لم يعلمنا و إنما منحنا فسحة لن تتكرر في الحياة مرة أخرى, الصغر هو هدية متواضعة من الموت, لأن الموت لا يبدو بكل تلك القسوة التي ننعته بها. انه منح حياتكم معنى و إن ظن الجميع للوهلة الأولى أن لا معنى لها..هنا و الآن وفي هذه اللحظة انفجر وابل من الأسئلة في عقولكم عن صحة هذه النظرية أو لنقل فقط الفرضية في إطار سياسة التواضع. الجميع يعارض و ينتقد الآن و أنا كعادتي أشاهد و أسخر من الجميع, أحس بنشوة الانتصار و أقول لكل شخص أقتنع بالفرضية, تبا لك لما لا تحاول أن تفكر قليلا, لا بأس أن ترى أن هذه الفرضية صحيحة, أليس كذلك؟ أجب الآن ما بك؟ أنا أسمعك؟ و ربما قد أساعدك..لا تفكر بالسحر و السحرة, أنا لست منهم ولو كنت قد ادعيت ذلك سابق.. هذا جيد أنت الآن مهووس بما أقول لكني في الواقع لن أجيب على سؤالك لأني لست ملزما بذلك كما أنك لست ملزما بالقراءة أيضا..

طيب, لقد لاحظت منذ البداية أن هناك ضيوفا يحبون الشعر كثيرا ولم أمنح لهم فسحة منذ أن دخلوا غمار هذه المتاهة, أضف إلى ذلك أن طرائف الطفولة لم ترق لهم, لذا خذوا بعضا من الشعر..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بصري حلق من النافذة

صادف عيون السماء

قبل وجهي ضوء الريح, قيل لي أي ضوء   للريح

ضحكت, قلت..

لم يدركوا وزن القافية, ولا أحبوا غزل الشتاء للعيون,

نمت قبيل النغمة بقليل

وحدي أكتب تفاصيل النهاية

وحدي أرسم لون السعادة,

وحدي أرقص للثلوج, للمطر, للحياة

ربما نجوت

ربما دنوت,

ربما صادفني الحظ تائها دون معنى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذه الشذرات التي مررتم عليها الآن, ومنكم من وقف عندها مطولا و منكم من لم يطالعها إطلاقا, هي في الأصل تعبر عن حالتكم النفسية في هذه اللحظات و أنتم مقبلون على التعرف أكثر على ما تجهلونه عن أنفسكم. كيف ذلك؟ أنتم تتساءلون, أخبرتكم مررا أن موضع تساؤلاتكم دوما يأتي خارج السياق, بل وخارج المنطق أيضا لو كنتم تعلمون, أتمنى ألا أكرر هذا التأنيب مستقبلا, لأني بالفعل كررته أكثر من مرة, لكن القليل من اتعظ.

يجب على الجميع أن يدرك منذ اللحظة أن ما تطالعه عيناه الآن كله حقائق وليس مجرد أوهام كما ذهب إلى ذلك الكثيرون, توقفوا عن التغاضي عن كنه أنفسكم, مزقوا الآن كل تلك الصور المزيفة التي تصدح بها مخيلتكم عن العالم و الأحلام, و كفوا تفكيركم عن التعمق في الهراء, انظروا جيدا صوب قلوبكم صوب أرواحكم إن لزم الأمر و إن استطعتم إلى ذلك سبيلا, ستعلمون أن كل ما قلته منذ البداية لا يبرح أن يكون نقدا لاذعا لتلك الطريقة التي تسايرون بها هواجس الحياة.. من الآن فصاعدا لن أنتقد فهمكم الخاطئ للمعاني, ولن أسرد على مسمعكم تفاصيل أخرى عن غبائكم و بلاهة تفكيركم, لن أفعل أي شيء عدا أن أتوقف الآن عن الكتابة و عن قراءة أفكاركم ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حصان يركض الآن في عقولكم,

له سبع أرجل,

في كل رجل حوافر ترسم فروعا,

كل فرع له لحن,

تجتمع الألحان لتوحد الفروع,

و تجتمع الفروع لتوحد وقع الأرجل,

لكنها لا توحد الطريق لكل الأحصنة..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عاد الرعب للنفوس, الكلمات قاسية وقاتلة, مخضبة بالدماء, بالجروح, بالبكاء, بالعواء.. بكل الرعب, السطور تتلاحق تحمل معها كل وسائل الإبادة, بعضها يحمل سيوفا حمراء من لهيب الموت, و بعضها يحمل جثت القتلى ليرعب الحياة والبعض الآخر يحمل الحزن و كل المشاعر السلبية.. إنها النهاية كل الشجعان حاولوا الموت لكن الموت بدوره فر خائفا من كل هذا الجحيم, لم يتمكن أحد من الموت.. انفجرت الكلمات بجيش من الأفاعي ذات الأجراس المزعجة.. حالت من الفوضى تعم النفوس و الكل مضطرب..الحياة قاسية, الكثير من المهام و الكثير من المسؤولية, القوانين البشرية, الأعراف, التقاليد, الزواج تم الإنجاب و تربية الأبناء.. البحث عن لقمة العيش,  و مجابهة كل الصعاب في سبيل الأسرة و الموطن و الوطن.. التفكير لوقت طويل عن كل تلك الاحتمالات الممكنة للنجاة, لكنها لسوء الحظ قليلة و ناذرة بل و منعدمة أيضا.. الأفكار التحررية تقيدها مجموعة من الأعراف و التقاليد.. على العموم شجاعتك في اتخاذ القرار و ذلك التهور الذي سيبدو واضحا و طاغيا على الشجاعة سيقودك للنصر أو للهزيمة, فأنا لا أدري بالتحديد, أما من يظن بأني سوف أتي على ذكر السبيل الأمثل فهو هائم لا محالة لأني لن أتطرق إلى ذلك أبدا و ليس من السليم أن أخبركم عن سبل نجاتكم لمن أراد النجاة بطبيعة الحال, و إن كنت فعلا قد تطرقت للعديد الحقائق حولكم و أصدرت بعض الأحكام الجائرة في حق الكثيرين منكم, و لا أخفيكم سرا إذا ما قلت أني لست نادما على الإطلاق..

أكثر ما يحيرني الآن هو ماذا أدون في السطور المقبلة, هل أسير على نفس النهج؟ أم أسلك بكم منحى أخر؟ في الحقيقة أشعر برغبة كبيرة في نسج متاهة أكثر تعقيدا و أكثر غموضا, و إن كنت متأكدا بنسبة كبيرة أن المتاهات السابقة نالت من الكثيرين و رمت بهم بعيدا, بعيدا جدا, بعيدا حتى عن أقرب طريق للعودة نحو البداية, بل و بعيدا حتى عن معرفة ما جاءوا من أجل تعلمه, و أنا بقولي هذا أزرع الشك في نفوس الكثيرين و ربما دفعهم قولي هذا للتوقف للحظة و التساؤل و مراجعة العبر المستخلصة, وأخشى أن يستولي عليهم السحر القديم ـ الجديد  إذا ما وجدوا حصتهم من الإجابات قليلة بل و قد تنعدم أيضا..لان المتاهات في الغالب تلقي بك بعيدا و لا تترك لك أي مجال للعودة عدا طريق واحد لن أخبركم به الآن و لندع عقولكم ترنو إليه علها تجد إليه من سبيل.

قبل أن أشرع في نسج خيوط المتاهة المقبلة أود أن أتوقف للحظة عند بعض الزائرين, و هم على قلتهم رائعون ـ انتبهوا أنا لن أكرر هذه الكلمة مرة أخرى ـ إنهم فئة أحبت أن يصاحب القراءة ألحان من الموسيقى تماما كتلك التي أستمع إليها الآن و أنا أشرع في الكتابة. أود أن.. لكن لن أكرر المرادفات حتى, الأهم من ذلك أنهم يسيرون في الطريق الصحيح, طريق الهلاك أخيرا, كلكم لم تفهموا لكني على يقين تام أنهم قد فهموا ما كنت أرمي إليه, أما أن كنتم لم تدركوا حقا فهذا سيشعرني بالهزيمة أمام الكلمات..

لنبدأ الآن دون تردد..

المتاهة اللانهائية على وشك التشكل, التردد يسكن النفوس الآن, الخوف من الأرواح الشريرة.. بعضهم يسخر في هذه اللحظات و ينعت كتاباتي بقصص الأطفال فقط لأنه يعجز تماما عن مسايرة الإيقاع. السماء سيكتنفها ضباب كثيف و غبار يحجب عن العقول قبل العيون النظر في الأفق البعيد. توقفوا الآن أسمع وقع الأقدام و هي تخطو داخل حقل الألغام بحذر شديد لكن في الحقيقة لم ينتبه أحد أن الألغام ليست على الأرض و ليست في السماء, لا هي على اليمين و لا على الشمال, أين إذن؟ أين قد تكون إذا لم تكن في كل هذه الأماكن, الخوف يزرع في هذه اللحظات العصيبة, صوت عقارب الساعة يضفي على الأحداث المزيد من الهلع, و الكل يبحث عن الألغام, بمعنى آخر يبحث سبيل للخطو دون أن تطأ الأقدام على تلك الألغام التي لم يكتشف أحد لحد الساعة مكانها, لأن الجميع يبحث في الجوار ينظر صوب السماء, ينظر صوب الغبار الذي يلتف حوله و يحجب عنه الحقيقة, يتحسس الأرض بتوجس بأطراف أصابع قدميه, يصرخ: أين الألغام اللعينة؟ لا تنكشف له.. ينجلي عنه الضباب و السحاب رويدا رويدا, هدأت عاصفة الغبار, كل شيء الآن واضح وجلي, السماء صافية, الأرض عارية, لا مجال للخوف الآن هكذا يقول في سر نفسه, فجأة و دون سابق إنذار بدأت الألغام تنفجر وحدا تلو الآخر, انفجرت ملامحه بمزيج من الرعب و الدهشة, هو يسمع صوت الانفجار في كل مكان من حوله لكنه لا يرى أي شيء, ما الذي يحدث يا ترى؟ ينظر في كل الاتجاهات, يحوم مثل الصقر حول فريسته بسرعة جنونية, الألغام تستمر بالانفجار, و الخوف و الرعب يسكناه في هذه اللحظات, لم يكن بهذه الحالة حين كانت الأجواء مضطربة, فقد كان على الأقل يحاول العثور على الألغام, أما الآن فهو عاجز تماما و مرتبك للغاية, و تستحيل نجاته في مثل هذه اللحظات العصيبة.

هكذا يلقي بنفسه مرة أخرى بعيدا جدا, جمود عقله قاده للمتاهة في حين أن كل شيء كان واضحا, كان عليه ـ بدل مشاهدة حالة الطقس ـ أن يقوم بحركة بسيطة, هي في الأصل ليست كذلك, لكن من الناحية الشكلية تبدو ميسرة و سهلة. لو أنه عكس بصره  ـ أو بمعنى أدق بصيرته ـ في الاتجاه المعاكس كان حينها ليبطل مفعول تلك الألغام, و من يدري ربما تمكن من إبطال مفعول هذا السحر الذي يكتنفه أكثر فأكثر كلما غاص في ردهات هذه المتاهة, ما كان ليتابع قراءة سيرته الذاتية, كان ليقرر هو أيضا الكتابة أو بمعنى آخر, و لو كان فيه شيء من الإهانة, محاولة الكتابة.

قبل أن نتابع سنعود بالزمن للوراء قبل ملحمة البحث عن الألغام, أين كنا قبل ذلك؟ و كيف أني فجأة ألقيت بكم وسط كل تلك الفوضى, سنعود خطوة واحدة فقط للوراء, سنعود للحظة التي قرر فيها الجميع نزع الألغام, أو لنعد أكثر من ذلك, سأعود بكم إلى نقطة البداية, نقطة بداية هذا الجزء فقط, كيف زرعت الألغام أصلا, وهو سؤال لا شك أن بعضكم قد طرحه أكثر من مرة, بشكل استنكاري, لكن لما؟, لأنهم مازالوا يخفون عن نفسهم الكثير.. إذن كيف زرعت الألغام.

إليكم القصة..

.. في ذاك اليوم الذي بزغ فيه الطفل بدرا في تلك الأسرة, أو لنقل الأسر على اختلاف مستواها المادي و الفكري  و الروحي أيضا, في ذلك اليوم وهو ملطخ بدماء “الجريمة القانونية” اقترب منه الجميع, نظر لتلك الأشباح التي تحذق إليه, لم يبتسم للوهلة الأولى لأنه ببساطة لم يرغب بذلك, كما انه لم يكن هنالك من داعي ليضحك أصلا, ناهيك على أن يحاول الابتسام لكل هذه الأشباح المخيفة التي تحملق إليه, حاولوا جهد استطاعتهم جعله يبكي, و البكاء في قاموسه ضحك و في قاموس تلك الأشباح بكاء, تم قرر أخيرا أن يبكي ليبتسم لهم, فهدأت الجلبة من حوله لوهلة, تم عادت الجلبة حين قرر أن يبتسم ليبكي لهم.. عاش كل تلك السنين و هو يبني مفاهيم غير صحيحة عن كل شيء, حتى عن نفسه, لكنه في الأصل لم يخطئ لأنه كان مجبرا على المضي في تلك الطريق, فمازالت قدراته محدودة, و مخالبه لم تعتد بعد على اصطياد فرائس كبيرة.. قرر أنه حين يكبر سوف يكسر مرآته و سيخلع ذاك الرداء المزركش باللونين: لون الكتابة و لون الورق, سيحرق كل تلك الأوراق التي وضعت حجابا لبصره أمام ضوء الشمس.. هاهو ينمو في ذاك الحقل و جذوره تضرب عمق الأرض, يقول في سره مازال بإمكانه النجاة.. حين أدرك المعاني و سن مخالبه, نظر من حوله بتوجس وجد أن الجميع له مخالب, و هناك من هم بمخالب تكبر بكثير مخالبه, إنها المتاهة بدأت تتشكل الآن في عقله, الأحداث الآن لن تكون كما اعتادها, تلك الأشباح التي كانت بالأمس القريب تحاول جعله يبتسم ليبكي, تحاول الآن أن تجعله يبكي كي يبكي, و الأغرب من ذلك أنه حين نظر لنفسه ـ نظر للشكل بطبيعة الحال ـ  وجد أنه يتحول تدريجيا لذاك الشبح الذي ولى عنه عقله للمرة الأولى التي خرج فيها بدرا ساطعا قبل أن يبدأ بالأفول.. فهل يتمكن من النجاة؟.

 

تلك هي القصة, نعم أول لغم زرع فيكم كان في تلك الفترة المبكرة, المبكرة جدا..ثم صارت الأرض خصبة بعد ذلك لزرع المزيد.

الفشل..

انه يفجر كل الأشياء من حوله بالإبداع, ربما هذا الشعور ليس فشلا بقدر ما هو خيبة, خيبة عظيمة تتسلل بثبات نحو جسدي تسكن كل التفاصيل, حواسي الآن تود الكتابة انه ملجئ امن أتبادل فيه الهزائم مع الكلمات في ود بعيدا عن الحروب.. هذا الجزء من الكتابة داخل هذه المتاهة لا يعنيكم في شيء, انه عني و يمكنكم تجاوزه لو أردتم ذلك, و لو كنت أظن أنه من الواجب عليكم عدم قراءته, لأني سأعتبر ذلك تطفلا, و إن كنت على علم تام بأنكم لا تجيدون التطفل بطريقتي, لان تتبعكم لهذا الجزء لن يفيدكم في شيء, ناهيك عن كونه سيحرف مساركم داخل المتاهة.

إنه أمر محبط حقا لقد رسمت لوحة جميلة, و عزفت على تلك الآلة الرائعة, كتبت الكثير من القصائد, لكن ماذا الآن هل خانني كل شيء؟ هل صرت فجأة مهزوما؟ هل خذلتني كل تلك التأملات عند قمة الجبل ولم أكن أنظر للحقيقة كما توهمت لبرهة..لقد هزمت بكلمة واحدة, انهارت كل تلك الحصون التي شيدتها, وتلك اللوحة الجميلة التي رسمتها قد بللها مطر عاصف و مزقت الرياح ما ظل معلقا من معاني, هزمت, هزمت كعادتي لكني لم أمت بعد, خذلتني الكلمات و هذا أمر لن أسكت عليه أبدا, سوف أثور بكل جوارحي ضد هذه المهزلة, لقد فقدت صوابي و جنت كلماتي و ما عادت تعبر عن شيء.. هناك خطب ما, انه الحزن على ما يبدو, اعرف هذا النوع من الحزن لقد تصادفنا كثيرا, و مررنا بأوقات عصيبة معا, لم يزل كما عهدته ذاك الطيف الذي يأتي على الدوام ليلا دون سابق إنذار, لم يغير قط عاداته مازال محافظا على هندامه الأسود الأنيق, تلك الحشرجة في صوته ما تزال على حالها, و نبرة الأسى في حواره صارت أكثر وضوحا, شيء واحد تغير فيه, بعض الأمل يكسو جنباته, أمل في أن هذه الزيارة سوف تكون الأخيرة, لكن هذا الأمل الرقيق الضعيف, و المهترء ليس كافيا على الإطلاق. ما كل هذا الغموض الذي يكتنف الحياة؟ لما أنت تصرين دائما على محاربتي وأنت تعلمين أني خصم أعزل, لا سيف و لا رمح يجابهك, لا فطنة و لا خبث, حمل وديع, كلما قسوة عليه كلما قسا على نفسه, كلما رد المسكين العيوب على نفسه.. ألا تشفقين لحاله؟ لماذا على الدوام تهينين أمثاله من العباقرة و الأذكياء, بل تهينين تلك الفطرة النقية, تلطخين تلك السمعة الحسنة بدماء جريمتك, و تعبثين بهذا السلم و الأمل الذي يكسو محيا أمثاله.. تعلمينه القسوة لكنه لا يريد أن يصبح قاسيا, تعلمينه النمطية لكنه يحب أن يكون مميزا, تعلمينه الكذب لكنه يحب أن يظل صادقا.. يحب أن يظل مهزوما على الدوام على أن يرضخ لمتطلباتك, لسياساتك.. انه بالفعل ثائر محبط و حزين.

سنعود للمتاهة, سأعود للكتابة, هذا وطني الوحيد, هذا ملجأي و هو كهفي ألبث فيه من السنيين ما لم يلبث أحد من قبل, هنا حريتي بعيدا عن كل القوانين بعيدا عن كل التناقضات الصارخة, بعيدا عن النفاق, أنا حر و حر و حر, اكتب ما أشاء و أتيه في عوالم لم يبلغها أحد من قبل, سأصل أبعد مما سافرت مركبة فضائية و سوف أبلغ من الحقائق ما لم تبلغه كل العلوم من عصر الإغريق إلى نهاية العالم. لن أعيش في الحياة حتى و إن بدا أن الأمر ليس كما أقول, ستجدون شكلي يسير بين الأزقة و يقرأ كل أفكاركم التافهة و يجردكم من كل دفاعاتكم ثم يمضي بعيدا دون أن تتمكنوا من مجابهة فصاحته.

المتاهة تستمر في التكون على الشاكلة التي أريد, و الجميع يرتقب لحظة الحقيقة, الجميع يشرأب نحو النهاية ليجدوا الحقيقة, ليجدوا أنفسهم.. أحقا تريدون استعادت أرواحكم الطاهرة من جديد؟ حسنا.. لكن الأمر لن يخلو من الكثير من القسوة و ربما من كلام بذيء و جارح للخلق..

هل فعلا تريدون أرواحكم يا جماعة الخونة و المنافقين؟ أفعلا تريدون السلم و السلام؟ هل حقا تحبون الأمن؟ لما برزت عيونكم فجأة و استولى عليكم الاندهاش, لقد بدأت للتو, لا داعي لكل هذه النظرات.. تبا لك أيها الإنسان الحقير, قتلت كل شيء, جردت كل شيء ذا معنى من معانيه؛ فلا الحب صار حبا و لا الشمس صارت دفئا لجلدك الحربائي اللعين, ولا ضوء القمر صار شعرا في الدواوين. الحياة برمتها مُزق جوهرها تم ها أنتم الآن تبكون و تنتحبون, تشكون و تتذمرون, جعلتم الحياة تعاقب الجميع؛ فبدل أن تزرعوا أرضها الخصبة بالورود و المحبة زرعتم بها من كل شر صنفا. زرعتم بها الرعب و الخوف, زرعتم في جنباتها المكر و الخديعة تم ها أنتم تبحثون فجأة عن انبعاث معجزة من الرماد, ها أنتم الآن تريدون استعادت أرواحكم من جديد, أخشى أني لن أساعدكم على الإطلاق هذه المرة, و ربما سأتوقف عند هذا الحد لأنه على ما يبدو لا أمل لكم في النجاة, لقد توقف النبض الآن, جميع الخلايا تموت بسرعة غير متوقعة, و الديدان تحيط بالجثة من كل الجهات, أمواج من العقبان و الصقور تنهش الجثة, و في الأخير أمطار حمضية حارة جدا تذيب كل العظام تم يختفي كل شيء. انتهت الحياة الآن و الأرض مقفرة و موحشة, الرياح تعوي بجنون و الأجواء تتقلب فجأة, الأعاصير تهدم ما تبقى من مآثر و عمران تساعدها في ذلك كل الحيوانات و الكائنات الحية الأخرى بما في ذلك الحشرات و الجراثيم و البكتيريا لأنها لم تتأثر بسوء الأحوال, و لم تفقد حياتها فهي ما زالت محافظة على كل القوانين الصحيحة, و ما تزال تسير نحو التوجه الصحيح, بعض هذه الكائنات وجد بعض الأرواح البشرية تأن و تحتضر فأسرع يخبر الجميع أن الشر ما زال على قيد الحياة.

قد تغضون في هذه الأثناء بصركم عن هذه الحقيقة المفاجئة التي صعقت الجميع, قد تغضبون و تنطلق ألسنتكم بالثرثرة لأنها الشيء الوحيد الذي تجيدونه و تبرعون فيه, بعض الحمقى منكم ستنطلق ألسنتهم بالتحليل و النقد و بتلك اللهجة المتغطرسة التي يكسوها نوع من الشعور بالعزة و الأنفة و تمجيد الذات لأنه يعتقد بل و يؤمن أن نقده لاذع.. في هذه الظروف البعيدة كليا عن الصخب و الضوضاء تهدأ الكثير من الأفكار, تسترخي و تتأمل بعمق قبل أن تقرر البزوغ للوجود, الكثير من المعطيات تنقلب فجأة في هذه الظروف لتدل على أعمق مما كانت تحتويه, الوضوح يزداد تجليه في كل شيء حتى تجد في أبسط الأشياء غزارة من المعاني و ما لا حصر له من الخيارات.. و أنا أقضي هذه الأيام هنا مصحوبا بهذه المتاهات المتفرعة أشعر أني بلغت من الغربة في كل شيء ما لم يبلغ أحد, أشعر أني أبتعد عن جميع الأشخاص, القريب منهم و البعيد, الأخ و الصديق, أشعر أني أبتعد عن كل الأشياء, و أتوغل في متاهات مزدوجة لا نهاية لها, أشعر بالشهيق و هو يشهق ليملئ صدري بالاسترخاء و العافية, و أشعر بالزفير و هو يزفر بهدوء و بروية غير مستعجل في خطاه, أشعر بكل التفاصيل من حولي و أسمع كل تلك الأصوات المتناغمة في إيقاع واحد و منتظم, بل و أشعر أحيانا بصوت الدماء و هيا تخطو داخل العروق بثبات نحو هدفها القديم الجديد, أرأيتم هذا| لكل شيء معنى هنا, حتى الدماء التي تلطخ دائما بالجرائم و العقاب اتضح أنها بريئة من كل الأساطير التي نسجت حولها, هي الآن حرة تماما معي من كل القيود و أنا أتابع عن كثب مسيرتها القديمة ـ الجديدة و هي تغدو وتروح. أراقب ذاك السيل و هو يجرف كل الذكريات معه ليكتب فصول أخرى من سيرته في مكان ما هناك, أتابع حوار الريح مع المطر بالكثير من الشغف و التلهف و أتعلم من تحاورهم ما أجابه به كل ملك ظالم, أشاهد من أعلى الجبل الفراغ و هو يحاول جاهدا أن يخبر الجميع أن له دورا و أن له معنى كما أحاول أنا أن أفعل تماما منذ البداية.

أنا لا أبكي الآن كما تظن الكلمات, أنا لست جبانا, أنا فقط أشعر بالظلم؛ الكثير من الظلم, أنا لست أبكي صدقا أنا لست كذلك أنا فقط أحاول أن أنجو من غبائي من فكري من كل ما خلته يوما سيبني لي سقف بيتي المهترء, أنا لست أبكي لا تنعتوني بالجبان أنا لست كذلك مطلقا, الكلمات التي ترونها الآن كاذبة و تحاول أن توقعني في ورطة مع الحضور, تحاول أن تتمرد على تسلسل الأحداث, وفي الواقع أنا أبدي لها الكثير من الاحترام فقد تعبت و خارت قواها, و لم تعد تستطيع المتابعة, ما عاد بمقدورها التعبير عن شيء, تحاول أن تحصل لها على نفس جديد بأن تضعني في الواجهة لبرهة إلى أن تلتقط أنفاسها, فهي رغم كل شيء تقف دوما إلى صفي و تمنحني الكثير من الدعم و تعطيني دافعا قويا للاستمرار في نسج المتاهات الواحدة تلو الأخرى.

الذين انتقدوا و حاولوا تشويه المعطيات الصريحة لم تلههم أنفسهم؛ الملوثة بدخان الانبعاثات المرضية؛ من النظر مرة أخرى بالاتجاه المعاكس, كانوا حينها ليخرسوا و ليعلموا علم اليقين أنهم لن يجدوا كنزي المخبئ بطريقة غاية في الإتقان داخل سلسلة المتاهات هذه.

فتح الآن باب آخر نحو عوالم مجهولة لم تطأها عقول قط و لم يتمكن أي شخص إلى حدود اللحظة من بلوغها, كيف سيصلون إليها و هم لا يعلمون أصلا بوجودها فما بالك أن  يقوموا بسبر أغوارها الخطيرة و المرعبة والتي قد تعجل بنهايتهم قبل أن يكشفوا الحجاب عن أول حقيقة. حتى الطريقة التي أدخل بها الجميع في هذه الدوامة ليست بتلك الكيفية التي يظن الجميع, لأني لا أدخلهم من الباب أصلا, ليس من الضروري أن تسير كل الأمور كما اعتادها الجميع, يجب أن أغير من الإيقاع قليلا, و أبعثر كل الأوراق أو لنحرقها  ولنعد صياغة مجد جديد لتلك الصورة النمطية التي أثقلت كاهل البصيرة..النوم سلطان جائر يستولي على رغبتي الجامحة في الكتابة ومتابعة الهروب بكم بعيدا إلى أرض الفلاح والنجاة, لا يريد أن يمهلني فقط أن أدون هذه الدفقة الشعورية القوية و الطويلة أحاول التوقف لكن دون جدوى ليس لأني تعبت من الكتابة, بل خشيت أن أوقد النار في الكلمات الخاطئة و بالطريقة الخاطئة فينهار كل شيء في لحظة, فينقلب السحر على الساحر, وتلتهم ألسنة اللهب كل تلك المتاهات فتفر مني الكلمات و يهرب مني كل السجناء نحو السجن الكبير.

..لقد أخذوا مني كل شيء, لقد شردوا حياتي و أفقدوني الرغبة في حب الحياة من جديد, إنهم مخيفون و جشعون لا شيء يهمهم أكثر من بسط أيديهم على عروشهم الذهبية الفاتنة, لقد سئمت من سجن الصراخ في أعماقي, بركان يغلي داخل بركان انفجر الأول لكن الثاني على وشك البكاء, سيخرج عما قريب, لكن هل سيندفع بقوة و بكل حرية؟ ألن يخشى على نفسه من أن يُخمد نفسه بنفسه قبل أن تقرر كل الوسائل أن تجتمع لتقبر صوته و تحول حممه الملتهبة بالنصر و المتشوقة لمعانقة رائحة الحرية, إلى جليد؟ هل يستطيع بركان يغلي من ألف سنة أن يصرخ أخيرا؟ فليصرخ فهو قادرة على إبادة كل تلك العروش و قادر أن يحطم كل صنم متحجر يعيث في الأرض فسادا, سوف تهتز كل العروش و ما ملكت الأيمان, طبول الجيوش تدق و تدق بل و تجن, و الساسة يبحثون عن منفذ فالجيش مهما بدا قويا و متراصا لن يصمد للحظات أمام زفرة واحدة من زفرات هذا البركان الثائر بكل جوارح و عواطفه, و المخيف أكثر من ذلك أن كل البراكين الأخرى رغم ما اعتلاها في بادئ الأمر من خوف و تردد إلا أنها بدأت تصدر بعض الهمهمة, و شيئا فشيئا تبدأ بالزفير و العواء ثم تنفجر أخيرا لتتلاحق بعدها البراكين الأخرى تباعا إلى أن تغرق الأرض في الحمم فلا تجد لك فيها موطئ قدم, تطفو إلى السطح جثت الملوك و الرؤساء و النواب و كل الساسة, بعض الغربان طافت حول تلك الجثث قليلا لكن حين اكتشفوا أصحابها رحلوا بعيدا و اعتبروا ذلك علامة شؤم و سوء حظ و ربما لعنة, أما الضباع التي كانت جائعة أكثر من أي وقت مضى فأنها حين لمحت أكوام اللحم تلك اقتربوا لكن بحذر لأنهم لم يعتادوا على كل تلك الكمية من الطعام, و الغريب في الأمر أنهم حين تعرفوا على الجثث من خلال الرائحة بطبيعة الحال فقد ولوا مدبرين بأسرع ما يمكن حتى ماج بعضهم على بعض بل و قتل بعضهم من جراء ذاك التدافع المهول و الارتباك الواضح إذ بدا الجميع خائفا و متوتر خشية أن يسجن من طرف الأسود و ذلك لأنهم تجرءوا على النظر إلى عورات أسيادهم, ولم ينتحبوا و لم يضعوا الورود قرب الجثث. أما العبيد فقد ظلوا لوقت طويل على مقربة من الجثث و لازمهم شعور هو خليط من الفرح و الحزن, لكن يبدو أن البهجة و الشعور بالتحرر كان أقوى من بين كل المشاعر لكن لا أحد تجرأ و أبدا فرحه, و استمر الوضع على ما هو عليه إلى أن جاء حمار و بال على الجثث و نظر نظرت إشفاق و حسرة في وجوه العبيد ثم انصرف و هو يحمل في نفسه ذيول الخيبة. حين شاهد الجميع ما فعل الحمار بالجثث ذهلوا و اضطربت نفوسهم و شعر الجميع بالمهانة, تسرب إلى نفوسهم شعور عظيم بالذنب و زلزلت قلوبهم, بل إن الكثيرين شهقوا إلى أن سلبت منهم أرواحهم, و البعض الآخر قرر الهرب و جزء منهم رأى بأن فكرة الانتحار تبدو سليمة في مثل هذه الظروف, بل و تعتبر شجاعة لا مثيل لها ربما مسحت عن وجوههم قليلا لباس الذل و المهانة, أما تلك الفئة المتبقية من العبيد فليس من اللائق ذكر ما حصل لهم بعد ذلك..

..دون ذكر ما فعل العبيد المتبقون و دون سرد تلك التفاصيل المخيبة جدا, فإنه و بقدرة قادر شفيت جميع الجثث و وضعت على كراسي مرصعة بالذهب و الفضة, و تحملق حولها الجميع مبتهجين و مسرورين, و بايع الجميع ملوكهم الموتى ـ الأحياء, و أعلنوا لهم الولاء من جديد و أقسموا أن ينتقموا من كل البراكين على صنيعها و أن يقتصوا من جميع الحمير.أما الغربان و العقبان و الصقور فقد شعروا بذنب كبير لأنهم لم يلتهموا تلك الجثث, لقد شعروا بذنب كبير لأنهم لم يضحوا في سبيل الحياة بأرواحهم و عقاب لهم قرروا أن يلقوا بأنفسهم في البركان عله يتقد من جديد و يثور لكن البركان لفظهم بعيدا و عاش الجميع في سلام.

لا مزيد من التوضيح, المتاهة تتشكل تلتوي على نفسها مرارا و تكرارا قبل أن تتابع المسير, لا أحد قادر على مجابهتي الآن, إنه مجال عملي حيث قضيت العمر كله و أنا أحاول إصلاح ما أفسدته الشياطين, معي قليل من السحر الآن و هو يكفي لبعضكم فقط فمن كان سباقا إليه نال مراده, و من فشل منكم في اللحاق بالركب فلا شك هالك لا محال.

حين تسافر لا تنسى أن تترك أحدهم يحرص لك سطح البيت حيث ترى القصص كلها تنسج أمام عينيك ببساطة, حين تسافر لا تنسى أن تترك شبحك ينظر في الجبال, في البيوت, في الطرقات, يقرأ لك تفاصيل كل يوم يمر, لا تنسى أن تترك خجلك من النظرات المباشرة حيا في هذا المكان فربما علمت الكثيرين القليل من المعاني و الخجل, و أصلحت نظراتك هموم شيخ لا زال يبحث عن ترياق يعيد إليه شبابا ضاع في التعب, ضاع في الخطأ, لا تنسى أيها المسافر للبعيد أن تحدث عنا قليلا كل من تصادف و تخبره أنك صادفت معنى على قيد الحياة يبحث عن أنس بالجوار, خبره كل يوم عن كل تلك الأفكار التي لم تتمكن من حزمها في حقائب سفرك, أظهر القليل من الحزن و الأسى و أنت تروي لهم عن كل ذلك الأمل و لا تحدثهم عن الحب فقد تضيع منك كل المشاعر. أيها المسافر للبعيد ستنسى ببطء, لكن لا تحاول العبث بالمشاعر كي تظل حيا لبعض الوقت في كل شيء, في الحجارة, في الرياح, في الشجر و زهر اللوز, في الأنغام و صوت الحيوانات التي تنتحب كل صباح لأنها ما عادت ترى طيفك بالجوار, في ذاكرة الأطفال الذين علمتهم الحب ثم رحلت فجأة عن حياتهم عد لهم يوما فهم يفتقدونك كثيرا لأنهم يفتقدون الحب. أيها المسافر لا تنسى كل صباح أن تعب الكثير من الهواء في صدرك ثم تزفر بهدوء ولا تبتئس فلا شك سيحزن النهر الذي أخبرته الكثير عنك, أيها المسافر لي عندك سر و أمنية, فأحفظ الأول و حقق لي الثاني لو استطعت إلى ذلك سبيلا, أما السر فلا تخبر أحدا أنك كنت تحلم طوال الوقت أن تعانقني و تعيد الزهور إلى المزهرية المنكسرة, لا تخبرهم بحقيقة مشاعرك و لك أن تبوح للحروف متى شعرت بالضجر. أما الأمنية فسهلة و لا تتطلب الكثير, فقط عد لنا يوما و عانقنا مرة أخرى حتى تخضر الحجارة. أيها المسافر كن صادقا حين تخبر نفسك عن المشاعر ولا تجعل الحروف تفضحك حين تحاول التظاهر بأنك بخير.. أيها المسافر أتمنى لكَ رحلة آمنة.

لا تبتسم بعد الآن, لا تحاول أن تصبح متميزا عن الجميع, لا تبتسم بعد الآن ولو لزم الأمر لذلك, وجهك لم و لن يجيد الابتسام, إنه يفضح أسرارك للجميع إنه يجردك من كل ما يحجب عنك حقيقتك. هم لن يحبوك فلا تبتسم بل لا تتحدث و كف عن البوح, كن صامتا؛ لغما موقوتا يخشى الجميع لمسه, ولا تنفجر لو لامستك يد سهوا أو عمدا فقد تتكشف لناس مكامن ضعفك فتغدو لا شيء. كن حزينا و لا تبالي بالحياة و ابكي وحدك ما دمت بعيدا عن الأنظار, أنت هكذا لا تجيد شيئا على الإطلاق, و الناس يظنون أنهم يجيدون الكثير لكن في الحقيقة هم لا يجيدون شيئا على الإطلاق هم بارعون فقط في حفر القبور و وئد الإبداع و طمس الاختلاف, هم يشعرون بالحقد تجاهك فقط لأنك لم تساير طريق القطيع و لن ترسم خطواتك نفس اللحن الذي اعتادوا عليه, يبدو أنك تفسد نغمات الأغنية, لذا هم لن يتوقفوا عن مضايقتك حتى يستقيم لهم اللحن من جديد, و هذا اللحن في الواقع رتيب و ممل و ليس فيه أي شيء من التناسق أو الجمالية, لا تصدق لحنهم إن كان طاغيا على سمعك فلحنك أروع و أحلى و فيه من الروعة و التناسق ما يعجزون عنه مجتمعين.. هيا امضي الآن و لا تلتفت أبدا و عش في كوخ ذاتك ما بقي في عمرك من سنين ولا تلتفت, و إن قرر يوما ضيف أن يطرق بابك فافتح له و لا ترحب به, دعه يرحب بنفسه و يتحدث قليلا عن شعوره بالأسى لكل تلك السنوات التي قضاها هباء في نسج لحن ليس على الإطلاق لحنه, ثم رحب به بعد ذلك و تجاذب معه أطراف الحديث عن لاشيء ليعلم أكثر من أي وقت مضى أن حياتك غنية بالتفاصيل و أنك تهيم بعيدا عن كل ما كنت تقول حين تحشرك الظروف في متاهة ذاك اللحن البعيد عنك.

أيها الغريب أنا أناديك الآن, أنت تسمع صوتي يكسر صمتك يسعدك لبرهة تم تنغمس في حزنك السعيد كما تسميه, أبتسم دون أن أصدر أي صوت يقلق راحتك, أنظر إليك بكل فخر و اعتزاز و يتسرب لي الأمل من جديد, أنت مازلت حيا, أنت مازلت أنت, أشعر بالدموع تصطف خلف بصري الذي ينظر من خلالك للبعيد, صفا طويلا يريد أن يعانقك إلى الأبد, أشعر بكل جسدي يرتعش, أشعر بالدماء كلها تجتمع على صفحة  وجهي لتمنحني شعورا جميلا بالخجل لأني أعلم أنك تستسلم أمام الخجل و لا تبدي أي مقاومة له, هكذا أخبرتني الكلمات عنك أيها الغريب البعيد, هل سنلتقي معا كما وعدتني في كلماتك, ألن تفر من جديد إلى عمق متاهة لا يجدك فيها أحد, فأنا أرجو حقا أن أصادفك دون موعد مسبق أريد أن أصافح خجلك و أنظر إليه طويلا فقد سمعت عنه الكثير و أرجو أن اسمع منه الكثير أيضا.

أعلم أني غريب أيضا لكني لست كذلك بعد, لا أستطيع أن أصبح غريبا أو أن أقنع نفسي أني كذلك, ظننت أن الأمر سهل جدا و ميسر لكن بعد ذلك لم أستطع أن أساير طريقك في الغرابة, بحث عن طرق أخرى لكنها كانت تهيم بي بعيدا عن مرادي, أدركت حينها أن الطريق الوحيد الذي يجب علي أن أسلكه هو المرور من كل تلك المتاهات التي رسمتها منذ البداية, فإن لم أستطع بلوغ الغرابة و أقصد بذلك أن أؤمن بأني غريب سوف لن أعود من جديد للحياة, فإن نجوت و صرت غريبا سوف أغني لك لحن زهر اللوز.

منذ  وقت طويل و أنا أسير بمفردي أحاول جهد استطاعتي أن أغني للحمام لكنه يفر كلما لمح طيفي يمر بالجوار, أكون معه صادقا لكنه يحب أن يرى الرصاصة في يدي ليتوقف عن الهروب, ظننت أن الرصاص يخيفه لكني كنت مخطئا إنه يحلم على الدوام أن تناله رصاصة طائشة ليطمئن في موته, لم أفهم في بدأ الأمر لما ترغب حمامة في الموت هكذا و بهذا الشكل الغريب إلى أن حدث الأمر بالفعل ذات مرة فلمحت الحمام كله يهوي إلى الأرض ببطء و لمحت ريشه يرتفع إلى السماء و لمحت السحب تمطر قطرات دم بحجم حبة برد صغيرة و خائفة, رأيت الحمام في ذلك الوقت كما لو أن لعنة ما حلت بهم.. [إنها نهاية الأمل نهاية السلام الذي لم يكن يوما على هذه الأرض] هكذا تحدث إلي شيخ حكيم, بنبرة يشوبها الكثير من الحسرة و الحزن, لم أحدث الحكيم عن شيء رحلت خجلا و جلا دون أن أقول أي شيء.. ما عاد حمام يحط ليطير, ما عاد حمام ليظهر على وسائل الإعلام للتعبير عن السلم و الحرية و الديمقراطية و كل تلك الشعارات الزائفة.. لقد انتهى كل شيء.

.. من الصعب أن تسرد تفاصيل دقيقة عن أحدهم مهما جادت قريحتك و مهما كنت ولوعا بالكتابة, فما بالك لو كان من تسرد عنه شخصا حكيما نبيها و فقيها لفن الحياة, ألا ترى أنه من التطفل أن تحاول جاهدا سرد أفكاره بطريقته الخاصة عن طريق لغتك, ألا ترى أن الكثير من التفاصيل ستفر منك و ستضيع في فج عميق يفصل لغتك الركيكة عن فصاحته البسيطة؟ هكذا حاولت الكلمات و الرغبة معا أن يثنوا من عزمي في التحدث عن شخص أثار الكثير من التساؤلات في وجداني, لكني لازلت مصرا و بشدة على منحه قسطا واسعا و فسيحا و مريحا ليحكي عن نفسه من خلالي, لا لشيء فقط لأن الهشاشة توحدنا. لن أتطرق لعمره ولحاله, و لن أتوقف عند سرد أسماء و أحوال أبناءه على كثرتهم, لن أفعل هذا على الإطلاق..

مصادفة, و خارج الوقت و الزمكان و دون رغبة أيضا تجاذبنا أطراف الحديث, فجأة صرنا غريبين يتحدثان دون أن يفهم الآخرون, و أين هم الآخرون لقد فروا, مجازا, بعيدا عنا خوفا من أن تنتقل لهم عدوى الطاعون, ليتهم يرحلون مجازا أيضا بعيدا عن حياتنا. استحضار نفسي في الرواية عنه ليس أمرا مقبولا كما أنه يحمل من الدلالات ما لا أريد أن يحمله, أضف إلى ذلك أني وعدت بأن أمنح له حيزا شخصيا لا يزاحمه فيه أحد, سوف أدعه الآن.. تقاسيم وجهه كافية لتقرأ كل شيء, دع بصرك يهيم في ذاك الشيب المتدلي في لحيته كأنه العمر كله يحتفظ بشبابه و قوته, دع بصرك يحملق إليه كثيرا ستعرف كل شيء و لو كنت أغبى الأغبياء في هذا الكون, أقصد من يصطنع الغباء لأن لا أحد غبي, ستخترقك نظراته الهائمة, آه من بصره كم فيه من المشاعر و التفاصيل اللانهائية, عيونه تكفي كل الشعراء ليؤلفوا ألف ديوان شعر, بصره حر و طليق يجرد الحجر من ثيابه و ينظر من خلاله للبعيد و يستريح من تفاهة الواقع من حوله, يهيم أكثر حتى مما أظن فهو يعلم أن الغياب الحضور توجه سليم ليرضي نفسه و يكف عنه التافهين. أما ابتسامته فلا أظن أني صادفت يوما أصدق منها, إنها تشع بالبراءة و القليل من الخجل, إن فيها من النور ما لو أظلمة السماء لأنار لي الطريق, إنها رغم كل ما تحمله من البراءة و الطهر فيها من الصرامة و الحزم و قوة الشخصية ما يثير دهشتك و استغرابك, تحس حين يضحك أن كل الذين صادفتهم يضحكون هم في الحقيقة يبكون, تحس أن المعنى الحقيقي لضحك هو ابتسامته, تتمنى حينها لو تعلم الجميع كيف يبتسمون, تحس به حين يبتسم كما لو كانت تلك الضحكة الأولى في حياته, كما لو أنه لم يضحك قط. تلك الطريقة التي وضع بها نفسه في زاوية الباب مستندا بظهره على الحائط و ملقيا بجانبه الأيمن على الحائط المقابل فيها الكثير من المعاني و الدلالات؛ فهو ليس في حاجة للكثير ليبدو سعيدا؛ تلك الطريقة التي جمع بها نفسه و انزوى في الركن تؤكد ذلك و بوضوح كما أن الحديث المصاحب لجلوسه ذاك يمنح لكلماته قوة و كثيرا من المصداقية ولو ظن البعض من نبرته تلك أنه شخص متشائم و ربما ظن آخرون أنه فاشل. صورة التجاعيد على يديه تجعلك تعلم كل شيء عن ماضيه الزاخر, تلك التجاعيد تاريخ رسمته السنين على كفيه ربما ليقرأه أحفاده يوما, و قد تلمحه حين ينظر إليها و قد توقف الزمان من حوله و عاد به بعيدا ليهيم في كل تلك الأيام التي تتزاحم على باب ذكرياته, لكنه على الدوام يستطيع أن يرتبها و ينقحها قبل أن يختار واحدة منها تليق بموضوع الحديث بل و تنسجم مع الوقت و المكان و الفصل أيضا, بل أحس أحيانا أنها تنسجم مع صوت الريح و حالة النفوس حينئذ.

الكثير من الأشياء, و التفاصيل العميقة ستبدو لدوي النظرة المتأملة ظاهرة و جلية عليه كما تصادف بصرك مع بصيرته, تحس بفكره و مبادئه طاغية على حياته, فهو لم يكن يوما ليحدثك عن أشياء لا يؤمن بها, قوله طبق الأصل لفعله و هذا ما يمنح لحديثه الكثير من المصداقية و الوضوح لأنه لم ينافق يوما نفسه, عاش على الدوام و لحد الساعة بتلك الطريقة التي أحب نفسه عليها و ما غيرها قط. حتى حين كبر أبناءه و استقلوا بذاتهم و طلبوا منه أن يترك رعي الغنم و أن يستقر معهم, فإنه رفض رفضا قاطعا أن يترك هذا  القطيع, و أكد أكثر من مرة أنه لن يترك قطيعه هذا ما دام في عمره بقية من سنين. و قصته مع قطعان الغنم قديمة جدا أقدم حتى مما يتذكر هو؛ فقد ارتبط بهم منذ زمن بعيد و صاروا جزءا من حياته, و ما كان هدفه من ورائهم ربحا أو ثروة, بل تكونت تلك العلاقة على أساس الحب المتبادل منذ زمن بعيد.

أشعر بالأسى على كل الذين لم ينهلوا من هذا الحكيم القليل من الحكمة, ولم يمنحوا نفسهم جرعة من فن الحياة, من يدري ربما كانوا لينجوا من الكثير من المطبات التي لطالما كانت عائقا يحول بينهم و بين السعادة, تلك السعاة التي حين حاولوا تحصيلها بعيدا عن معانيها الحقيقية تحولت حياتهم إلى جحيم دون أن يدركوا

هل شاهدتم زهر اللوز في أواخر فصل الشتاء حين تهب رياح التغيير من أعالي الجبال؟ هل رأى أحدكم الزمن يتوقف لينظر و يحوم ببصره في كل هذا النعيم الروحي؟ أنا رأيت ذلك, أنا عشت تلك الفترة بكل جوارحي, و أنا كنت حينها قد بلغت أسمى درجات الرقي مع الذات أو كما يسميها الكهنة: مرحلة السعادة المطلقة. من لم يشاهد تلك الفترة حين تنثر الريح أهازيج زهر اللوز الناعمة في الأرجاء فقد فاته خير كثير و لن يدرك ما الذي أناجيه الآن. حين يتناثر زهر اللوز في الأرجاء سيرسم في خيالك عالما من الأمل و الكثير من الألم, فهو قادر على أن يسعدك و يبدي نواجذ قلبك لكن بالمقابل فإنه و بشكل يثير في النفس الدهشة, قادر أن يبعث في نفسك حالة من الحزن و الشعور بالوحدة و الضياع, يشعرك هذا المنظر الجميل بالكثير من الغرابة في كل شيء, أنت تشعر بأنك الوحيد الغريب الذي يدرك كل هذا الجمال و السلام, تشعر أن لا أحد ليشاركك تلك النغمة الشجية التي تصدح بها روحك في تلك اللحظات. الجمال غريب و قاسي هكذا علمني زهر اللوز وهكذا سرت أخشى على نفسي من التأمل و الهيام في الجمال, فقسوته على النفس لا تطاق كما أنه يكشف لك عن هويتك, عن أخطائك في حق نفسك و في حق الآخرين, عن عيوبك التي لا تريد أن تكشفها لشعاع شمس كلما حاول أن يخترق قلبك أخبرته أن وقت الغروب قد حان.

لكم هو قاسي هذا الجمال في الكون إنه ينبع بالكثير من الحقائق و المعاني, و هو يسحر البصيرة أكثر مما يسحر البصر, و من لم يشعره الجمال بالذنب فهو مدين للجمال بالكثير من الاعتذار. من لم يبعث في نفسه الجمال نفحة من الأمل الممزوج بالغم فقد أساء لروحه و أساء للخير, كن صريحا و ابكي قليلا لتغسل عنك وزرا يعتلي ذهنك و يحجب عنك أبعاد الزمان و المكان من حولك, امسح هذا الضباب من عيونك و أنظر للبعيد و لا تخشى على نفسك من المتاهات فكلما تهت أكثر كلما وجدت نفسك الضائعة, كلما غصت بعيدا كلما وجدت نفسك أقرب من أي وقت مضى من حرف من حروف سعادتك. نبرة التفاؤل هذه قد لا تصلح كثيرا فقد تظنون أن التأمل في آيات الجمال طريق يسر يرحب بكل زائر يمتطي ظهره, لا إنه ليس كذلك أبدا, إنه على العكس تماما, طريق شائك و به الكثير من المطبات و المتاهات, فيه الكثير من الاستعارات و المجاز و قد تسيئون فهم نواياه فيختل عندكم ليله بنهاره و يظل بعضكم أو جلكم و ربما كلكم عن السبيل الحقيقي إلى أن تفقدوا الجمال بدوره معانيه كما فعلتم بكل مكونات الحياة الأخرى. أنا لا أدعو أحد للبحث عن لذة الجمال بصنفيه المادي و الرمزي, و ذلك لخطورة الموقف و درايتي المسبقة بالوضع و الذي يجعلني أحذر أحدا من مغبة التورط في هذه المتاهة بالذات أكثر من سابقاتها, ذلك لأنها قد تضع حدا لحياتكم و لا داعي للسخرية من هذا الجزء من الحديث.. لا بأس فأنا على ثقة أن لا أحد بقادر على بلوغ نواة هذه المتاهة لدى فلا خوف عليكم و لكم أن تتوغلوا قدر استطاعتكم دون أن تدركوا شيئا من الأساس.

الحياة مليئة بالمشاعر و الأحاسيس, و الكثير من اللحظات بين الفرح و الترح, بين ما نريد و بين ما نظن أننا لا نريد, بين أنفسنا و بين الآخرين, كل تلك التفاصيل التي تمتزج لترسم صورة ما عنا تتداخل فيما بينها بشكل غير صحيح لترسم صورة بشعة لا يطيق أحد النظر إليها, لكن مع مرور الوقت نعتاد عليها ثم نبدأ بالتناغم مع إيقاعاتها إلى أن تصير فجأة هوية لنا, بل و ندافع عنها و نمجدها و ننظر لها على أنها صورة مثالية تمثل دواتنا, و نحن في تلك اللحظات نغفل عن حقد دفين ينمو فينا ضدنا؛ ضد أنفسنا و هواجسنا, لنجد أننا في يوم من الأيام نثور على غبائنا نلعنه و ننعته بالغبي, لكن الأوان حينها يكون قد رحل بعيدا و فات. فما كان هذا الأوان لينتظر أكثر فقد شعر بالضجر و شعر بالمهانة أمام الوقت فقد ظن أن بوسعه أن يقوم يوما بعمل جليل و يظل دون رحيل, لقد سئم من الترحال, سئم من حزم حقائبه في كل مرة, هو يريد أن يستقر أخيرا, و لا يريد أن يقال عنه أنه فات, الزمان و الوقت و كل إخوته يحتقرونه لأنه الأضعف بينهم, كثير السفر و التنقل لكن دون جدوى..

لم أكتب في ذلك اليوم أي حرف على الحجر, فكرت بالأمر لكن سرعان ما راودني شعور بالكسل فلم أكتب, كنت أتأمل فقط في البعيد و البعيد إلى أن وجدتني داخل متاهتي, في نفسي استقر هيامي و تاه تفكيري, أحسست بالغربة داخلي و لم يرحب بي أحد. كنت أخطو الخطوة تلو الخطوة بحذر شديد فأنا لا أريد لقدمي أن توقظ حلما لي كان ينسج في تلك اللحظات, أردت أن أتابع عن كثب أحلامي و هي تحلم بالتكون, شعرت بالدهشة و الفرح؛ الدهشة لأني لم أخل نفسي يوما قادرا على الوصول إلى أعماقي و التجوال فيه بكل هذا اليسر و الوضوح, أما الفرح فأنا أجهل في الحقيقة كيف تولد مع المشاعر في تلك اللحظات لكني لسبب ما كنت سعيدا. توقفت عن السير و سرت أنظر لكل حلم على حدا متأملا فيه و ناظرا من خلاله إلى مشاعره تجاهي, و ناظرا من خلاله لحقيقة التحقق في زمن ما. المشاعر أدركتها و فهمتها جيدا أما حقيقة التحقق فلم أجد من سبيل كي أعلم, كانت هواجسي تحول بيني و بين إدراك ذلك و لم أعارض فقد كان يكفيني أن أعلم القليل فقط من هذا العالم الجديد الذي يكتنفني الآن, كان يكفي فضولي ذاك الحوار الذي سمعته يدور بين نفسي و بيني و بين الفضاء الخارجي و بين حواسي, سمع الكثير عني في تلك اللحظات, عرفت أكثر من أي وقت مضى من أكون و لما دخلت كل هذه المتاهات. في ذلك اليوم كانت الريح تعوي و تصدح بداخلي و توقظ كل تلك الأخطاء التي نامت على أفكاري منذ زمن بعيد. أنا الآن أتحرر من سجن نفسي و من قيود الواقعي, خيالي الآن صار أقوى و أوسع, و مجاز كلماتي يعبر حدود المعاني و يفتح للإبداع عوالم أخرى يبرز فيها مواهبه و يعلم الحاضرين في المتاهة الكثير من الدروس و العبر و يحاول أن يستفز عقولهم علها تسترخي و تستمتع و تكف عن الجمود.

ماذا سأكتب الآن؟ هل أتحدث عن الصدق, عن هذا التناقض الذي يكتنف محتوى عقول الناس؟ هل حقا مازلت أود الكتابة بعد كل الذي حصل؟ أنت شجاع حقا, بطل مغوار, كيف لا ترتجف أناملك و أفكارك, إنها متراصة و منتظمة, تزحف بكل تلك الجروح و الكدمات التي تعتري مضامينها, تزحف لتشكل لك هذا المعنى الذي تريد له أن يحيا. يا له من لحن جميل يشهد على اللحظة الآن و هي تتشكل ببطء يسكنه الحزن و اللذة, يا له من لحن ينسج الكلمات و يرسم الاستعارات بكل خفة و بهاء, يا له من لحن يخمد نبرة الضجر في الهواجس و يغير مسار الكتابة و تشكل المتاهة, يا لها من قوة شخصية يتمتع بها هذا اللحن لقد غير كل شيء في لمح البصر, لكنه لسوء الحظ يزيد من غربتي و حزني, يلقيني  بعيدا و يمر و لا يبدي أي اهتمام لكل المشاعر التي أحشو بها فم الكلمات. اللحن يسري مفعوله بخلايا جسمي بخطوات متمهلة تبحث عن شيء ما بداخلي لتوقظه و أنا الذي اعتاد أن يفتح على الدوام كل النوافذ و الستائر في وجه كل لحن جديد, أنا أثق به و لا أخفيه سرا فقط أدعه يحمل كل مشاعري و عواطفي معه و يبديها لي جلية و ما تحمل, تلامس تقاسيم وجهها أناملي و نسبح معا في بعض من الخيال و لا نكترث بالمارة المحملقين بدهشة لاندهاشنا, نرشف من تلك اللحظة العابرة المسافرة قطرة من الأمل قد تهدئ من روع الجنون في الحياة.

الحروف ما عادت تكفي كي أواصل المسير في الغياب, و الهيام صار قليلا هنا في هذا المكان, هو لا ينفرني من الكتابة و حسب؛ بل يفقدني الكثير من نفسي و يفقد تلك الكلمات التي استنبطها بالكثير من الجهد و المشقة, يفقدها دلالاتها و سحرها.. أيها المكان دعنا نفترق الآن و ليمضي كل منا بعيدا عن الآخر, أنت سجني و غربتي و تقطن في بيتي رغم أنفي, تحطم أحلامي و تخرس إلهامي و رغبتي. دعنا نفترق دون وداع, و دون ميعاد حتى.

ذهبت بعيدا و سافرت في الواقع و الخيال, صادفت الكثير من الأشياء في تنقلاتي و رحلاتي, تعلمت بعض الأشياء و جهلت أخرى, تركت لي بعض الآثار في مواقع زرتها و مواقع تركت في بالغ الأثر. و في الكثير من الأحيان فشلت في التعريف عن نفسي و عن مؤهلاتي و خسرت الكثير من المعارك التي خضتها دون أن أستوعب أي درس على الإطلاق. حين تخسر معركة ما فلا شك أن تكون قد تعلمت منها خطة ما أو درسا ما, لكني لم أكن أبالي بكل تلك الأفكار فقد كنت عبثيا فضويا إلى حد التهور, لم ألقي للهزيمة بالا و لم أبحث عن النصر بين كل الهزائم. لقد كنت أكتفي بالمرور على زوايا النفس و هيامها أفتش داخلي فربما صادفت نفسي هي التي تحاربني, أو ربما وجدت العدو الخفي الذي يقطن في أفكاري و يكيد لي المكائد و يحرض النفس على الثورة ضدي, و قد أجد من يعلم الكلمات داخلي فكرة العصيان و التمرد. شيء خفي و غامض يحدث في جهازي النفسي, و نوع من الاضطراب يسود الذات مخلفا  وراءه حالة من الفوضى العارمة غير قادر على مجابهتها أو الحد من آثارها و ما قد تأول إليه فيما بعد. قد تكون هذه ساعة الحقيقة التي طال انتظارها بشغف خائف و ترقب متوتر, بحدس هو بين التوجس و اليقين. قد تبزغ الحقيقة قاسية و مرعبة و تلف كل شيء برداء السواد و الحزن, و قد تكون على العكس من ذلك و تفقد كل شيء جوهره و معناه. لا أعلم كيف وصلنا فجأة لطريق مسدود في هذه المتاهة المبعثرة, و كيف أن السحر ينقلب على صاحبه بكل يسر و يلف عجرفته و يمرغ  وجهه في العار و الذل. لا أعلم حتى كيف أخرج نفسي من كل هذه الأفكار التي تزدحم بها مخيلتي و طرقاتي و لا تفسح لي المجال كي أعبر سالما منتصرا.. في نهاية المتاهة صادفت كل شيء و نفذ المداد, و تعب التأمل من التأمل, و ما عادت الذاكرة قادرة على الربط و التحليل, و خيوط المعاني تشتبك بشكل فوضوي في محاولة يائسة منها للبحث عن منفذ للنجاة من قيود معنى غير مكتمل يحاول أن يستبد على حرية المعاني, و يحيل كل معاني قصتي إلى جنود يحرسون باب حكايته المزيفة. في نهاية المتاهة وجدت نفسي وحيدا و غريبا, تائها و حزينا, كانت ابتسامة رقيقة تتشكل ببطء و تناغم على وجهي و أنا أستدير للخلف كي أواسي من وثقوا بمتاهتي, وسلكوا معي كل الطرق و المنعرجات؛ لكنها سرعان ما تبددت و حال بينها و بين التكون صمت رهيب و فراغ قاتل يحيط بالمكان, فالبصر حين استدرت لم يصادف أحدا, لم أجد احد أمامي و أمام الخيبة التي أضيفت لها خيبة أخرى. هل تاه الجميع منذ البداية و عادوا أدراجهم؟ أم أن أحدا لم يدخل في الأصل؟. لم أجد الجواب أو أني كنت أخفي الجواب بسحابة بيضاء كانت تعبر من أمام الشمس حينها, و ربما.. لا داعي من التعبير عن المشاعر الآن, أنا أبحث عن تلك اللهجة السابقة, تلك التي كانت تحمل نبرة القوة و التحدي, تلك النبرة المفعمة باليقين الواثق من نفسه, و تلك الكلمات الصريحة في حوارها مع الواقعي.

المتاهة هذه لم تكن طريقا ليسلكه كل المشاة, و لا أملا ليرتشف من نبعه المحبطون, ليست هذه المتاهة حديقة بها من أصناف الورود ما تبتهج له النفوس؛ في الواقع هي ليست أي شيء و لكنها تعبر عن كل شيء نحياه, إنها تعبر عن تلك الفوضى التي تمنع المعاني من التشكل في الحياة, إنها تعبر عن تلك الأشياء التي تمنع العدل من التشكل في عالم يكتظ بالتفاهة و الضحالة.. تروي قصة الرضيع الذي يساعد أباه في ترميم البيت من جديد بعد أن سلبهم السيد أرضهم ظلما و عدوانا, فدمر البيت المادي و قتل البيت المعنوي. هذه المتاهة تروي حكاية الذئب حين طلب منه أن يحرس غنم الرعاة, فبكى و انتحب بجوار النهر و هو يرثي هذا الزمان و أهله, تحكي المتاهة قصة الغربة في الوطن لشاب كان يطمح أن يشيد لوطنه نشيدا تفخر به كل الألحان لكن الوطن نبذه و أهمله و أقسم أن يجعل حياته على أرضه جحيما و سجنا لا يطاق.

المتاهة هذه لم تكن طريقا ليسلكه كل المشاة,  و لا أملا ليرتشف من نبعه المحبطون, ليست هذه المتاهة حديقة بها من أصناف الورود ما تبتهج له النفوس؛ في الواقع هي ليست أي شيء و لكنها تعبر عن كل شيء نحياه, إنها تعبر عن تلك الفوضى التي تمنع المعاني من التشكل في الحياة, إنها تعبر عن تلك الأشياء التي تمنع العدل من التشكل في عالم يكتظ بالتفاهة و الضحالة.. تروي قصة الرضيع الذي يساعد أباه في ترميم البيت من جديد بعد أن سلبهم السيد أرضهم ظلما و عدوانا, فدمر البيت المادي و قتل البيت المعنوي. هذه المتاهة تروي حكاية الذئب حين طلب منه أن يحرس غنم الرعاة, فبكى و انتحب بجوار النهر و هو يرثي هذا الزمان و أهله, تحكي المتاهة قصة الغربة في الوطن لشاب كان يطمح أن يشيد لوطنه نشيدا تفخر به كل الألحان لكن الوطن نبذه و أهمله و أقسم أن يجعل حياته على أرضه جحيما و سجنا.

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى