اقلام حرة

لماذا لم تعمر الدعوة الإسماعيلية والدولة الفاطمية بإفريقية وبلاد المغرب؟”

لماذا لم تعمر الدعوة الإسماعيلية والدولة الفاطمية بإفريقية وبلاد المغرب؟"

أنفاس بريس 24: من إعداد : ذ. محمد جناي

أولا: معلومات عن الكتاب

الكتاب: الحقل الديني بإفريقية وبلاد المغرب، مسار تشكله وعناصر تكونه
الكاتب: محمد الهادي الطاهري
دار النشر: وحدة البحث: الظاهرة الدينية في تونس، كلية الآداب والفنون والإنسانيات منوبة 2018.
عدد الصفحات: 142 صفحة.

بين يدي الكتاب: ” الحقل الديني بإفريقية وبلاد المغرب، مسار تشكله وعناصر تكونه ”

قسم المؤلف كتابه إلى أربعة فصول نذكر أهم ما جاء فيه من فصول وهي كالتالي:

الفصل الأول

“مدخل نظري في معنى الحقل الديني وبنيته”

تناول فيه المؤلف “مدخل نظري في معنى الحقل الديني وبنيته”، حيث استهل حديثه في المقام الأول بمفهوم ” الحقل الديني ” وفق المقاربة السوسيولوجية الثقافية التي بلورها « Pierre Bourdieu»،و استعرض الكاتب مؤلفه بمايلي :”يجد الباحث في قضايا الدين وعلاقاته بالمكان ألفاظا عدة تتقارب في معانيها ولكنها تختلف باختلاف السياقات التي تستعمل فيها، فالجغرافيا الثقافية تستعمل لفظ الفضاء للتعبير عادة عن الأماكن المقدسة كالزوايا والمزارات ودور العبادة والأراضي التي يولد فيها الأنبياء ومن يرثهم أو يقيمون فيها أو يدفنون بها، ويكون البحث في الفضاء الديني بهذا المعنى بحثا في خريطة ترسم المراكز الدينية في انتشارها على مساحة أو مساحات متعددة وفي منزلة كل مركز منها في علاقته بسائر المراكز.

أما لفظ ” المشهد الديني” فيستعمل للتعبير عن طقوس وممارسات دينية مرتبطة بالمكان سواء كان ارتباطها به دائما أو مؤقتا، وتشكل دور العبادة حجر الأساس في رسم المشهد الديني لما تضفيه عليه من أبعاد رمزية ، ولا يختلف هذا المصطلح عن المصطلح الأول إذ الفضاء والمشهد مصطلحان متعلقان بالمكان التي تمارس فيها الطقوس الدينية وخريطة انتشارها أساسا ، بخلاف مصطلح الأرض أو التراب الذي يفيض عن حدود المعبد ليشمل مساحات شاسعة مقدسة وغير مقدسة ولكنها في ذهن الجماعة التي تسيطر عليها وطن تختص به دون غيرها من الجماعات البشرية.

لهذا نعتقد أن الجغرافية الثقافية بمفاهيم الفضاء والأرض والمشهد غير قادرة على تفسير ما به يكون الشأن الديني في مجال جغرافي ما، والذي يدار انطلاقا من تمثل خاص لمعنى الوجود الاجتماعي عامة والمعنى الوجود الديني على نحو خاص ، وأمام هذا القصور النظري سنحتاج حتما إلى دعم مفاهيم الجغرافيا الثقافية بمفهوم ” الحقل الديني “كما صاغه بور ديو .

تعد أعمال «بيير بورديو » في تاريخ علم الاجتماع تجاوزا نقديا لعدة مقاربات كانت تختزل الوجود الاجتماعي إما في بعده الاقتصادي وما يعنيه ذلك من اختزال للعلاقات الاجتماعية في علاقات الإنتاج ، وإما في بعده الفكري باعتبار المفكرين طبقة من طبقات المجتمع لها القدرة على التحكم في مسارات الوجود الاجتماعي، وإما في بعده المادي الموضوعي وما ينجر عن ذلك من إهمال لما يجري في المجتمع من صراعات رمزية تفوق قيمته كل أشكال الصراع الأخرى، كالصراع الطبقي ، وصراع الأجيال ، والصراع السياسي، وإذا كانت المقاربة” الماركسية” تنبني على اعتبار المجتمع وجودا ذا بنية انقسامية يحكمه قانون الصراع الطبقي بحمولاته الاقتصادية ، فإن المقاربة ” الفيبرية” تنظر إلى المجتمع باعتباره وجودا ذا بنية تراتبية يحكمه قانون المنافسة وتتمايز فيه التشكيلات الاجتماعية على أسس الجاه والسلطة والثروة، ومن تم ف” بيير بورديو ” رأى في هاتين المقاربتين عجزا عن فهم مايجري في عمق الوجود الاجتماعي من علاقات بين مختلف مكوناته هي في الحقيقة ما يمنحه القدرة على إعادة إنتاج نظامه باستمرار.

ولقراءة هذا الوجود قصد الوقوف على ما به يعيد إنتاج نظامه ، يبدو الصراع الطبقي والتفاوت الاجتماعي، وما خلفهما من تصورات ماديةورمزية ، مفهومين قاصرين عن استيعاب معنى الوجود الاجتماعي وإدراك ما به يكون قادرا على إعادة إنتاج نفسه، وهو ما دفع بيير بور ديو إلى إبتكار تصور مختلف يكون الوجود الاجتماعي بمقتضاه فضاء اختلافا يتكون من مجموعة حقول مادية ورمزية تتصارع عليها الجماعات لحيازة منزلة فيها من شأنها أن تزيد في مكاسبها ونفوذها، ومن هذه الحقول وما يدور حولها من صراعات يبدو الوجود الاجتماعي باعتباره فضاء أقرب ما يكون إلى شبكة تنتشر عليها جماعات تجري بينها صراعات شتى لحيازة أكثر ما يمكن من أنواع الرأسمال التي توسع باتريس بونفيتز في شرحها،مثل الرأسمال الاقتصادي والرأسمال الاجتماعي والرأسمال الرمزي والرأسمال الثقافي.

وقد نشأت حول مفهوم الفضاء الاجتماعي مفاهيم عدة توضحه وتبرز مدلوله الخاص في سوسيولوجيا بور ديو منها مفهوم الحقل، فإذا تمثلنا المجتمع في صورة فضاء اختلافي فهذا يقتضي بالضرورة أن يكون فضاء متعددا يتكون من فضاءات فرعية متباينة يسميها بور ديو حقولا منها الحقل الاقتصادي والحقل الثقافي والحقل السياسي والحقل الديني ، وليس الحقل عنده فضاء محدودا على نحو واضح ونهائي لأنه في واقع الأمر متصل بما حوله من حقول منتشرة على شبكة الفضاء الاجتماعي العام وتجري بينه وبينها تفاعلات عدة من شأنها أن تتسبب في تقلصها أو تمددها أو في ميلاد حقول جديدة لم يكن لها وجود على الشبكة من قبل.

وإذا كان لكل حقل فاعلون يعملون فيه فهذا لا يعني أنها حقول ثابتة أو منعزلة عن بنية الفضاء الاجتماعي العام وما يخترقها من صراعات بين جماعات تسعى ، كل من موقعها ، إما إلى فرض هيمنتها المادية والرمزية وإما إلى صيانة وجودها وحماية هويتها من كل خطر يهددها، وهذا يعني أن لكل حقل من حقول الفضاء الاجتماعي العام تاريخا خاصا ضمن تاريخ أكبر هو تاريخ الفضاء الاجتماعي وما طرأ عليه من تحولات ،في هذا الإطار النظري العام يتنزل مفهوم الحقل الديني وهو كغيره من المفاهيم المجاورة له في معجم بور ديو ، يحتاج إلى بعض بيان لتوضيح مدلوله الدقيق ولاختبار نجاعته في تحليل الشأن الديني وفهم آليات اشتغاله والوقوف على مايصله بسائر الحقول الاجتماعية أو يفصله عنها، وكيف يساهم معها في بناء الفضاء الاجتماعي العام ورسم استراتيجياته الكبرى.

وقد اخترنا لتحليل هذا المفهوم أن ننطلق من أقدم نص ليزر ديو يشرح تاريخ الحقل الديني ابتداء من لحظة تكوينه وصولا إلى لحظة باتت له فيها بنية خاصة ، إضافة إلى بعض ما تركه الرجل من أعمال أخرى نعتقد أنها تنطوي على نظرية متكاملة في حقيقة الوجود الاجتماعي العام والأسس التي ينبني عليها، مستعينين على ذلك كله ببعض ما تيسر لنا الاطلاع عليه من أعمال تحليلية نقدية حول بور ديو ومنزلته في سلم العلوم الاجتماعية.

يرى بعض الدارسين أن للحقل في معجم بور ديو عدة معان، وهي على تعددها تتكامل في ما بينها لترسم حدوده وخصائصه وعلاقاته بما يجاوره، ومن هذه المعاني أن الحقل فضاء مهيكل يتكون من جملة مواقع أو مراكز متفاوتة الدرجات يشغلها فاعلون يصدرون مواقف لا تعبر بالضرورة عن أفكارهم بقدر ما تعبر عن وجهة نظرالمواقع التي يحوزونها، وهذا يعني أن الفاعلين في أي حقل من الحقول الاجتماعية يتكلمون ويتصرفون بما تقتضيه منزلتهم في سلم الحقل الذي ينتمون إليه ، وهو مايجعلهم ملزمين بحماية رأسمال الحقل الذي يعملون فيه، ويقتضي ذلك منهم أن يكونوا على دراية بمصالح هذا الحقل ورهاناته الخاصة، ومن هنا ، لا يكون الحقل حفلا حتى يكون له رأسمال يختص به دون غيره من الحقول التي يتألف منها الفضاء الاجتماعي العام، وإذا كان الرأسمال شرطا من شروط الحقل ، فلا بد إذن من حمايته واستثماره في حدود ما تسمح به مجاري العادات أو ما يسميه بور ديو هابيتوس ، وهي السنن أو العادات المنظمة للعمل داخل الحقل.

هذا في مستوى البنية ، أما في مستوى التاريخ فالحقل نتاج مسار تاريخي يعكس علاقات القوى بين الفاعلين أفرادا أو مؤسسات ، وهو ما يجعله فضاء حيويا يعج بشتى أنواع الصراع في سبيل المحافظة على موازين القوى القائمة أو في سبيل إعادة ترتيبها لخلق موازين قوى بديلة ، ويعتبر الصراع على موازين القوى ما به يتميز الحقل تحديدا لكونه فضاء منفتحا تتمدد حدوده وتتقلص تبعا لمقتضيات الصراع بين الفاعلين فيه ولأن الصراع في واقع الأمر يدور حول حدود الحقل نفسه أي حول صلته بالحقول التي يؤلف مجموعها الفضاء الاجتماعي العام .

وبالجمع بين المستويين البنيوي والتاريخي ، يبدو الحقل في معجم بور ديو فضاء فرعيا ذا رأسمال خاص ، ويستقل بسنن تنظم العمل فيه وتضبط قواعد الصراع بين مختلف الفاعلين قصد تحقيق الرهان الأسمى للحقل نفسه وهو أن يوسع حدوده ويزيد في رأسماله ليكون نفوذه داخل الفضاء الاجتماعي العام أقوى أثرا وأبعد مدى.

بناء على ماسبق بيانه ، لا بد أن يكون الحقل الديني ، باعتباره واحدا من مجموع الحقول التي يتألف منها الفضاء الاجتماعي العام ، مستقلا برأسمال لا يشاركه فيه أي حقل من الحقول الأخرى ، وهو بالضرورة الرأسمال الديني ، ولا بد لإدارة هذا الرأسمال وتنميته، من فاعلين يستثمرونه وفق سنن معترف بها بغية المحافظة على ثواب الحقل نفسه من جهة وتقوية نفوذه في الفضاء الاجتماعي العام من جهة أخرى ، ولا يكون ذلك طبعا إلا في إطار موازين قوى متغيرة باستمرار.

إن هذا الوصف، وإن كان يضعنا في الإطار النظري العام الذي يتنزل فيه مفهوم الحقل الديني ، فهو لا يكفي لإدراك معنى الحقل الديني عند بيير بور ديو لأن المطلوب منهجيا وابستمولوجيا أن نفكر في ما به يكون حقل ما من حقول الفضاء الاجتماعي العام حقلا دينيا،نقول ذلك لأن كل محاولة لتعريف حقل من الحقول تتأسس نظريا على تمثل للحدود الفاصلة بين هذا الحقل وذاك.فكيغ تمثل بور ديو حدود الحقل الديني ؟ وما الذي يفصل هذا الحقل عن غيره من حقول الفضاء الاجتماعي العام؟

للإجابة عن هذين السؤالين لا بد من العودة إلى الأفكار التي بناهاالتي بناها بور ديو حول الدين لأنها في تقديرنا القاعدة الابستمولوجية التي بني عليها مفهوم الحقل الديني ، إذ استوحى بور ديو من ثقافته الفلسفية عموما ومن إرنست كسيرر تحديدا فهما للدين يجعله شكلا من الأشكال الرمزية، وقد اختار بور ديو هذا التصور دون غيره من التصورات المتاحة لانشغال كسيرر المستمر بسؤال الثقافة والأشكال الرمزية ، وهو سؤال منح صاحبه الفرصة لاكتشاف ما يختص به الوجود الإنساني عن أي وجود آخر ، ومن هذا المنطلق تسنى لبور ديو أن يفكر في الدين باعتبارهشكلا من الأشكال الرمزية على نحو ما أوضحه كسيرر حين اعتبر الدين لغة من بين لغات أخرى يستعملها الإنسان لتمثل معنى وجوده، وحين يفهم الدين على أنه لغة ، يكون في الوقت نفسه أداة لتحقيق التواصل ووسيلة لتحصيل المعرفة ، وهذا يعني أنه يبني في أذهان الناس معان حول ذواتهم، أفرادا أو جماعات، وحول العالم الذي يعيشون فيه لأن الإنسان كما يقول كسيرر يتمثل الأشياء كما تصورها اللغة.

وقد استطاع بور ديو بفضل هذه الفلسفة أن يحدث لنفسه مسافة نظرية تفصله عن أشهر الأفكار التي بناها علماء الاجتماع حول الدين سواء باعتباره بنية ذهنية تتناسب مع البنى الاجتماعية وتلبي وظائف لفائدة الوجود الاجتماعي كما يرى إميل دور كهايم ، أو باعتباره إيديولوجيا تستخدمها الطبقات الاجتماعية المتصارعة لأداء وظائف سياسية كما يرى كارل ماركس ،ولهذا ظل الدين في حدود هاتين المقاربتين مجرد وسيلة لتأمين وظائف اجتماعية أو سياسية.

أما في ما يتعلق بمعنى الحقل الديني وتاريخ تشكله فيرى بور ديو أن اللحظة المفصلية في تاريخ الأديان هي لحظة الانتقال من البداوة إلى الحضارة أو من العمران البدوي إلى العمران الحضري كما يقول ابن خلدون ، ففي تلك اللحظة تم الانتقال من نظام رمزي كان الإله فيه ربا غليظا شديد العقاب يتصرف في الكون كما يشاء ، إلى نظام رمزي صار فيه الإله رحمانا رحيما وحاكما عادلا حكيما يحفظ نظام الكون ونظام المجتمع.

وبهذا يشغل الحقل الديني حيزا مستقلا داخل الفضاء الاجتماعي العام الاحتكار البضائع الدينية إنتاجا وتوزيعا واستهلاكا، لما كانت البضائع الدينية بعضها خاص وبعضها عام فقد ترتب على ذلك صنفان من المعرفة بها، معرفة عملية عامة بقواعد الإيمان والسلوك يتساوى فيها عموم المؤمنين، ومعرفة نظرية عالمة بالمتون يختص بها الراسخون في العلم أو العارفون ومنها نشأت الفرق الكلامية والمدارس الفقهية والفلسفات الدينية وهي جميعا نتاج تأويل متجدد إما لإصلاح الحقل الديني في ذاته وإما لإعادة بناء أنظمة الرمز في الفضاء الاجتماعي العام”.

الفصل الثاني

تحدث فيه المؤلف عن صورة إفريقية وبلاد المغرب في المصادر الإسلامية

الفصل الثالث

” تكوين الحقل الديني بإفريقية وبلاد المغرب”

صاغ المؤلف عنوان هذا الفصل على شكل سرد كرونولجي لجميع الدعوات الدينية والسياسية الوافدة على القضاء الاجتماعي وبدأها بمقدمة مهمة عن الفاتحين الأوائل لهذا الفضاء الجغرافي المعني.

لم تكن إفريقية وبلاد المغرب طيلة القرون الإسلامية الثلاثة الأولى وجهة الفاتحين العرب الأوائل فقط ، بل كانت إلى جانب ذلك وجهة الكثير من أصحاب المذاهب الدينية المناوئة للسلطة المركزية في بلاد الشام أو في بلاد الرافدين، وبالعودة إلى ماتذكره المصادر التاريخية ، يمكن التمييز بين مرحلتين اثنتين ، أما الأولى فتمتد من بداية الفتح إلى أيام الفتنة الكبرى وفيها تدفقت على بلاد المغرب موجات بشرية متنوعة سكانيا ولكنها مؤتلفة دينيا ، إذ كان الفاتحون العرب من قبائل متعددة من جنوب الجزيرة العربية ومن شمالها، وكان فيهم المحاربون وغير المحاربين ممن جاؤوا ليستوطنوا الأرض الجديدة .

وبغض النظر عن الصعوبات التي واجهها هؤلاء الفاتحون الأوائل في إخضاع البربر وكيف استمرت الحرب بينهما سنوات طويلة ، فقد ساد الإسلام وانتشر بين القبائل البربرية وتم الاعتراف به دينا جديدا يتجاوز الديانة المسيحية والمعتقدات البربرية ، ولكن في واقع الأمر ، لم يكن القرن الأول في تاريخ الإسلام قرن الفتوحات فقط بل كان أيضا قرن الصراع الدامي حول مضامين المشروع الحضاري الذي بشرت به الرسالة المحمدية، ولئن بدأ الصراع سياسيا وأثار الكثير من الخلافات حول السلطة، فإنه سرعان ما اكتسب بعدا فكريا شمل مختلف العناصر المكونة لمنظومة العقائد الإسلامية ، وترتب عن ذلك ميلاد تأويلات متنافرة لمعنى التجربة الدينية اقتضى التاريخ أن يتم الفصل بينهما بقوة السلاح فكانت الفتنة الكبرى بكل ما خلفته من ويلات حربا لا من أجل السلطة فقط بل لتأسيس قواعد النظر والعمل في الرسالة المحمدية باعتبارها إعادة ترتيب للحقل الديني في الجزيرة العربية تحديدا ثم في سائر النواحي بعد ذلك.

إن آلية الإقصاء التي يعمل بها الحقل الديني فرضت على بعض الفاعلين فيه أن يكونوا خارج نطاق حدوده فتوجهوا غربا وشرقا آملين في العثور على نقطة عمل بديلة وكانت بلاد المغرب وجهة الكثير من هؤلاء الفاعلين الدينيين اامقصيين، ولم تكن هذه الظاهرة مقصورة على القرن الأول فقط بل امتدت على القرون الثلاثة التالية حيث ظل الصراع حول قواعد النظر والعمل في الإسلام محتدما وبأشكال مختلفة منها الحرب ومنها الجدل والمناظرات.

ومن أبرز الدعوات الدينية الوافدة والتي كان لها الدور الرئيسي في تشكيل الحقل الديني بإفريقية وبلاد المغرب نجد :

أولا : دعوة الخوارج

بدأت دعوة الخوارج في إفريقية وبلاد المغرب وفق المصادر الإباضية في أوائل القرن الثاني للهجرة بقدوم سلمة بن سعيد يدعو إلى مذهب الإباضية وعكرمة مولى ابن عباس يدعو إلى مذهب الصفرية ، وبقدوم هذين الرجلين واتصالهما برؤساء القبائل البربرية انتشرت دعوة الخوارج في صيغتيهما الصفرية والإباضية ، ويستفاد من تحليل المصادر التاريخية أن مذهب الصفرية انتشر خصوصا بين قبائل المغرب الأقصى وبعض قبائل المغرب الأدنى، بينما انتشر المذهب الإباضية في إفريقية وخصوصا في جبل نفوسة ثم امتد إلى قبائل زناتة ولواتة وغيرهما.

وبهذا نجح الخوارج في استمالة قبائل مغربية كثيرة وأقنعوها بالعمل معهم على تأسيس سلطة مناهضة للسلطة المركزية يكون هدفها ترجمة عملية للمبادئ والقيم العليا التي بشر بها الإسلام، وارتكزت دعوتهم على جذب الناس إليهم بموقفهم الواضح في مسألة الإمامة وهو موقف يترجم حرصهم على تأسيس نظام حكم عادل يتساوى فيه المسلمون ويمتلك فيه المحكومون قرار تعيين الحاكم أو عزله إن زاغ عن سواء السبيل .

ثانيا : دعوة المعتزلة

لم تكن دعوة المعتزلة في بلاد المغرب بحجم دعوة الخوارج ولكنها كانت تتقاسم معها الكثير من الهموم والهواجس والأفكار الدينية والسياسية التي ترجمت بعد ذلك في بيانات اعتقاد متشابهة،فمن القواسم المشتركة بين التيار الاعتزالي والتيار الخارجي أنهما في نظر السلطة المركزية وجهازها الإيديولوجي تياران مارقان عن الجماعة ومذهبها الرسمي .

ثالثا: دعوة آل البيت

لدعوة آل البيت في بلاد المغرب مرحلتان مختلفتان ، أما الأولى فقد بدأت في منتصف القرن الثاني بعد ثورة محمد بن عبد الله النفس الزكية (ت 145ه‍) على العباسيين، وهي دعوة شيعية زبدية تدعمها دعوة معتزلية سرعان ما اندمجت فيها فأنتجت دولة الأدارسة، وكانت الثانية مع الداعي أبي عبد الله الشيعي( ت 298ه‍) مبعوث الشيعة الإسماعيلية إلى بلاد المغرب وهي التي أثمرت ميلاد الخلافة الفاطمية في منتصف القرن الرابع الهجري ، وبين الدعوتين فارق في الزمان يعبر عن استمرار بلاد المغرب في استقطاب الدعوات البديلة المناهضة للسلطة الإسلامية المركزية وفي ذلك دليل على أن الحقل الديني في هذا الفضاء الجغرافي والسكاني لم يمتلك بعد رأسماله الديني الخاص به ، وأن الصراع مازال محتدما بين مختلف الفاعلين فيه.

ويظهر لنا أن بلاد المغرب عامة ظلت تستقطب كل دعوة مناهضة للسلطة الخلافة المركزية على امتداد القرون الثلاثة الأولى ، وفي مطلع القرن الرابع تحولت الدعوة الإسماعيلية من طور الكتمان إلى طور الظهور وكان لها في بلاد المغرب قدم راسخة بعد وصول أبي عبد الله الشيعي إلى قبائل البربر مبشرا بظهور المهدي، واللافت للإنتباه أن سكان هذا الفضاء الاجتماعي الواسع والمتنوعة ظلوا على امتداد ثلاثة قرون كانوا وبعد كل احتضان كل دعوة ، والانتقال بها من مجرد دعوة إلى دولة ، يكتشفون ما فيها من تقصير فيتمردون عليها ويشعرون من جديد في البحث عن منوال جديد .

ويظهر مما سبق أن إفريقية وبلاد المغرب استقطبت في الظاهر دعوات سياسية متناقضة لا جامع بينها سوى أنها تعادي سلطة الخلافة المركزية، ويجوز بناء على ذلك أن نعتبر فضاء إفريقية وبلاد المغرب فضاء بديلا لبناء سلطة بديلة بتأويل ديني يختلف جوهريا عن التأويل الغالب في الفضاء المركزي، وهي تكملة لمحاولات دعوة الفاطميين تأسيس حقل ديني بقواعد نظر وعمل غير التي أقرها الحقل الديني في الفضاء المركزي.

ومن تم نعثر على فكرة دقيقة مفادها أن انتظام الجماعات البشرية في ممالك أو دول لا يكون إلا بالديانات والآداب والسلوك ، أما تقويم العمران فيكون بالسياسة المستقيمة ، هذا ما أشار إليه ابن حوقل مثلا في كتاب المسالك والممالك، وبناء على هذا ، يكون احتضان إفريقية وبلاد المغرب للدعوة الإسماعيلية احتضانا لدعوة سياسية جديدة على أنقاض دعوات سابقة احتضنوها وساهموا في نشرها أملا في تحقيق منظومة القيم والمثل الإسلامية العليا التي آمنوا بها ولم يجدوا لها ترجمة في الواقع، وهو مايعني أن سكان هذا الفضاء ظلوا إلى نهاية القرن الثالث للهجرة يبحثون لأنفسهم لا عن الديانات والآداب والحكم التي بها تنتظم الممالك والدول لأن ذلك حصل لهم منذ بداية الفتح، بل عن سياسة لتقويم العماراتتترجم مضامين الديانات والآداب والحكم التي يؤمنون بها.

الفصل الرابع

“بنية الحقل الديني بإفريقية وبلاد المغرب”

خاتمة

أن الحقل الديني بإفريقية وبلاد المغرب قد شهد في مسار تشكله ثلاث عقد رئيسية ناشئة من ثلاثة أدفاق مختلفة يصب جميعها في شبكة عمرانية بدوية وحصرية تمتد على طول بلاد المغرب وعرضها، أما العقدة الأولى فقد نشأت عن تدفق جماعات الخوارج العربية الفارة من سيوف الأمويين طوال النصف الثاني من القرن الأول وفيها يختلط العنصر العربي الوافد بالعنصر البربري ليشكل جماعة دينية سياسية تستند إلى أساس قبلي محلي بقيم دينية وافدة ، وأما العقدة الثانية فقد نشأت عن تدفق أتباع واصل بن عطاء في الثلث الأول من القرن الثاني وفيها يختلط العنصران العربي والبربري ليشكلا جماعة دينية سياسية ثانية تستند بدورها إلى أساس قبلي محلي بقيم دينية. وافدة هي الأخرى، وأما العقدة الثالثة فقد نشأت عن تدفق الفقهاء من كبار التابعين ضمن بعثة عمر بن عبد العزيز في مطلع القرن الثاني ومنها تشكلت مدرسة دينية رسمية تختلط فيها أقوال المالكية والحنفية وربما أقوال غيرهما من الفقهاء الأوائل كالأوزاعي والثوري، ودام هذا الوضع إلى حدود النصف الثاني من القرن الخامس تقريبا حيث كانت بإفريقية مذاهب الصفرية والشيعة والإباضية والمعاملة وكان من مذاهب أهل السنة الحنفية والمالكية ولكن المعز بن باديس الصنهاجي بانفصاله عن الفاطميين قطع الدعوة الشيعية وأذن بملاحقة أتباعها وحمل الناس على مذهب الإمام مالك وقطع ما عداه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى