اقلام حرة

هل ثأر البرتغال ورونالدو في روسيا لسرقة إسبانيا مدينة سبتة في القرن 17م

 

كتبها : أبوالقاسم الشــــبري )باحث أثري(. متخصص في التراث المغربي البرتغالي

بدأت تحرير هذا المقال قبيل بداية نزال البرتغال وإسبانيا. ولذلك أجدني مضطرا لتغيير مقدمته فقط.

لم تسفر المفاوضات البرتغالية الإسبانية عن أية نتيجة تذكر بشأن تصفية الاستعمار أو لنقول استرجاع مدينة سبتة. ذلك أن الجلسات الماراطونية التي دارت رحاها تحت إشراف الرئيس الروسي القيصر بوتين توقفت في آخر المطاف بلا غالب ولا مغلوب وإن كان الملاحطون قد سجلوا أن البرتغال حققت نصرا دبلوماسيا وسيكولوجيا عريضا على إسبانيا. ذلك أن الوفد البرتغالي الذي قاده الدون “رونالدو أفيرو” خرج من قاعة الاجتماعات مزهوا أمام أنظار كاميرا الصحفيين العالميين بينما غادر الحلبة الإسبان ورئيس وفدهم، القشتالي “راموس” مصدومين من قوة الطرف البرتغالي على إدارة المفاوضات رغم صغر حجم هذا الوفد وضعف أغلب أعضائه. وما كان قد زاد من ضعف الطرف الإسباني المفاوض هو التدخل غير الدبلوماسي لوزير الدفاع، القنطلوني “بيكي” الذي ارتكب زلة لسان بالرجل مكنت كبير المفاوضين البرتغاليين س.ر.7 من تحقيق فتح دبلوماسي كان له وقع كبير وصفق له الأعداء قبل الأصدقاء.

لفهم مجريات ودواعي هذه السلسلة الجديدة من المفاوضات العسيرة بوساطة روسية لابد من العودة إلى البداية، إلى التاريخ البعيد. ومن غرائب ما لا يعرفه الناس لأنهم لم يقرؤوا التاريخ هو أن يجدوا بلدين جارين أخوين متضامنين بلحمة التضامن الأوربي المسيحي الكاثوليكي لكنهما يعيشان حروبا نفسية مضمرة ومعلنة بحسب رسوخ العلم لدى الناظر إليهما. فلا يعلم ذلك غير الراسخين في العلم. مثالنا هنا هو ما يعيشه بلدين مثل البرتغال وإسبانيا. حسن جوار وتعاون أوربي يخفي نارا تحت رماد حارق.

النار هي حرقة سرقة إسبانيا مدينة سبتة من البرتغاليين. والرماد هو رماد ذكريات تاريخ مرت عليه عدة قرون. والغريب في الأمر، أو لنقول من غرائب الزمان هو أن سبتة ليست إسبانية ولا برتغالية. فكيف لطرفين أن يتنازعا على شيء ليس لأي طرف منهما. لكنه في الحقيقة كان لهما بشكل ما. لكن إسبانيا خانت البرتغال وسرقت منها سبتة المغربية.

كانت سبتة المغربية الأزلية هي أول مدينة يحتلها البرتغاليون لما خرجوا من ديارهم بحثا عن مواد أولية ويد عاملة وعن أسواق جديدة. احتلوا سبتة بعد حرب ضارية ضد المغاربة، فسقطت المدينة في صيف حارق ليوم 21 غشت 1415م. ومن هناك انطلق البرتغاليون في احتلال الشواطئ المغربية والإفريقية حتى أخضعوا مدنا وبلدانا بآسيا بعد اجتياز فاسكو دا غاما لرأس الزوابع عام 1498 فصار إسمه من حينه هو رأس الرجاء الصالح ولم يكن صالحا قبله. هكذا احتل البرتغاليون بالمغرب، اتباعا كلا من القصر الصغير وماسة وأصيلا وطنجة ومازغان والصويرة موغادور وأسفي وأكوز وأزمور. وهي المدن التي سيتم تحريرها على مراحل من طرف السعديين ثم العلويين، فكان آخر ما خرجوا منه هو مازغان (الجديدة) في مارس 1769 يوم أجلاهم عنها سيدي محمد بن عبد الله في ملحمة تاريخية عظيمة لا يعرفها مغاربة اليوم مع الأسف ولم يتلقوها في المدرسة.

وفي غضون فترة احتلال سواحل المغرب تفتحت قريحة ملك برتغالي شاب مغامر متحمس مهووس بصليب المسيحية، هو سباستيان، فقرر “غزو” المغرب، واثقا كذلك من وعد مغربي خائن هو محمد المتوكل الملك المخلوع. تواعد الإثنان على ما يبدو على اقتسام مغرب السعديين، أي مملكة عبد الملك السعدي. هكذا فرضت على الأخير وعلى المغرب حرب لم يكن أحد يريدها. معركة تاريخية هي معركة وادي المخازن، أو معركة القصر الكبير التي دارت وانتهت في بضع ساعات يوم 04 غشت 1578 وشهدت موت الزعماء الثلاثة : مات عبد الملك في خيمة مُلكه قبيل نهاية المعركة وكان قد ارتحل من مراكش في حالة متقدمة من المرض، ومات المسلوخ، محمد المتوكل، غرقا في الوادي بينما يبدو أن سباستيان قتله بضع عساكر حتى بدون رتب عسكرية. وهكذا بويع مولاي أحمد في ساحة الوغى وحمل مذاك لقب أحمد المنصور. وسيصبح أحمد المنصور الذهبي بعد أن وسع مملكته إلى حدود نهر النيجر ونهر السينغال وملأ خزائن مُلكه ذهبا.

في الجانب الآخر، ولأن ملك البرتغال ترك العرش بدون وريث، فقد ضم عمه مملكة البرتغال إلى مملكة إسبانيا الناشئة، )إسبانيا توحدت في 1516م(. وبذلك بسطت إسبانيا نفوذها على بلاد البرتغال وعلى كل مستعمراتها في العالم. وفي عام 1640، سيسترجع البرتغاليون عرشهم وينصبون مَلكهم فأرجعت إليهم إسبانيا كل مستعمرات الإمبراطورية البرتغالية، من تخوم آسيا إلى البرازيل وأطراف الباراغواي. لكن الإسبان احتفظوا لذاتهم بمدينة سبتة المغربية ورفضوا إرجاعها إلى عرش البرتغال الذي كان احتلاله لها في 1415 قد زكاه بابوات روما على مدى قرنين. وهكذا أضحت مدينة سبتة مستعمرة إسبانية بشكل غير رسمي منذ 1580 وبشكل رسمي من سنة 1640م. إسبانيا الناشئة والموحدة من بقايا الممالك المسيحية بعد سقوط الأندلس، اعتبرت وتعتبر أنها هي الجديرة بالدفاع عن “شرف المسيحية” وعن أوربا ضد أي عودة محتملة للمسلمين و”للمورو” على وجه التحديد.

إسبانيا أدركت آنذاك ومازالت تحفظ ذلك الدرس الذي بموجبه تعلمت من التاريخ والواقع أن سبتة كانت هي القاعدة الخلفية للأندلس الإسلامية. فلولا سبتة والقصر الصغير وطنجة عموما لما تمكن المسلمون والمغاربيون من السيطرة على شبه الجزيرة الإبيرية من القرن الثامن إلى نهاية القرن الخامس عشر. هو نفس الدرس الذي كانت تعلمته البرتغال ولذلك بادرت باحتلال سبتة في 1415 ثم القصر الصغير في 1458 فطنجة وأصيلا عام 1471، ومن ثمة فقد مهدت الطريق إلى استكمال تحرير شبه الجزيرة الإبيرية من الوجود الإسلامي العربي الأمازيغي. فسقط آخر معقل وآخر نبضة قلب في غرناطة سنة 1492. ولذلك تمكن فاسكو دا غاما في 1498 من احتياز رأس إفريقيا ووصل إلى آسيا فقام شأن عظيم للبرتغال ولأوربا المسيحية التي انطلقت في غزو هنود أمريكا وإبادتهم. فجمعت أوربا خيرات مكنتها لأن تكون ما هي عليه اليوم من قوة وتقدم وازدهار.

وطيلة قرون حاول الملوك السعديون والعلويون استرجاع سبتة لكنهم أخفقوا. وربما لذلك أو في سبيل تحريرها ربما ذهب المولى إسماعيل حد محاصرة الإسبان في وهران. لكن سبتة ظلت إلى اليوم تقض مضاجع إسبانيا لأنها تعرف أنها دولة غازية استعمارية. كما ظلت سبتة شوكة في حلق وفي نفوس البرتغاليين لأنهم لم يستسيغوا خيانة أبناء عمومتهم الإسبان لهم فسلبوا منهم سبتة. وبذلك أضافوا إلى نفسية البرتغاليين عقدة أخرى إلى جانب عقدة السباستيانية حيث ظل البرتغاليون يرفضون التصديق بموت ملكهم الشاب سباستيان إلى حدود القرن العشرين، وربما إلى مطلع الواحد والعشرين. فكان في كل مرة يظهر مدعي بصفات الملك سباستيان، فيُسجن.

موت سباستيان حقيقة واقعة وسلب سبتة حقيقة مرة تجرعها المغاربة المالكون والبرتغاليون المحتلون. وبسبب “سيكولوجيا تاريخية”، هناك عقدة غير منفكة بين البرتغاليين والإسبان يتم قمعها في السيكولوجيا الجمعية بفعل الوحدة الأوربية التي تطغى على كل شيء. وإن هذه الحساسية السيكو-سياسية “psycho-politique” بين الشعبين هي وليدة ملف سبتة أكثر مما ولده ضم إسبانيا عرش البرتغال لمدة 60 سنة وعكس ذلك لا توجد أيه عقدة اجتماعية ولا سيكولوجية بين البرتغاليين والمغاربة رغم كل ما مروا به من مطاحنات سواء زمن الوجود المغربي في الأندلس أو خلال احتلال البرتغال لبعض مدن الشواطئ المغربية. لذلك شكل مونديال روسيا 2018 فرصة أخرى لاستدراج الماضي وهكذا كان رونالدو، ممثلا لكل البرتغاليين، يعض على طرف التاريخ وهو يواجه الثور الإسباني المدمر. قهر الإسبان بثلاثية مدوية، نادرة في تاريخ كأس العالم وجاء تعادل المنتخبين وكأنه انتصار ساحق للبرتغال وانتكاسة لإسبانيا وشعبها. لكن سبتة لا هي ببرتغالية ولا بمغربية في ليلتها تلك حيث يستمر اغتصابها وافتضاض بكارتها على مرأى من العالم الذي يقال عنه إنه متحضر. فهل ينجح خالد بوطيب وبوصوفة وبنعطية في الانتقام من إسبانيا والبرتغال معا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى