أنفاس بريس 24: ✍️محمد بغيلي
تهدف هذه القراءة السوسيولوجية المقتضبة في عمل باولو فريري تعليم المقهورين،إلى بناء منظور شامل من أجل فهم السياق والواقع الاجتماعي،واستظهار المآلات والمخرجات التي ترتبت عن هذه المقاربة التربوية والاجتماعية التي انتهجها باولو فريري، محققا بذلك أثر كبير في فلسفة التربية والنهوض بالتعليم باعتباره اللبنة الأساسية في بناء التغيير والوعي الاجتماعي.
السياق والواقع الاجتماعي في حياة باولو فريري :
تعد حياة باولو فريري الاجتماعية مدخلا أوليا لفهم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي كانت تتأجج بالصراعات الاجتماعية آنذاك….، أدت إلى انتشار البؤس والبطالة، نتيجة الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم سنة 1929،وفي خضم هذا السياق نجد أن عائلة باولو فريري لم تسلم من هذه الأزمة، تسببت لباولو فريري في الانقطاع عن الدراسة لمدة سنتين،من أجل الإسهام في ميزانية الأسرة،فيما سيواكب تعليمه فيما بعد.
ولو أن مآلات هذه المرحلة لا يمكن اختزالها في بضع أسطر،كونها شيدت واقع اجتماعي يتسم بغياب ادنى مقومات العيش الكريم،وبات الخوف يتسيد المشهد العام للحياة الاجتماعية،وغاب الحس النقدي لأفراد مجتمعه في إبداء الرأي العام حول القضايا الاجتماعية…وسادت ثقافة الاستلاب،فبات الإجماع على أن الواقع المعاش اللإنساني هو حتمية تاريخية أضحت من المسلمات…في حين نجد في الجانب الآخر طغيان الحركة المذهبية التي تعطل ملكات التدبر وإعمال العقل،مما تزيد من حدة التعصب المذهبي والاحتقان الأيديولوجي…وتنسف جل مبادئ وركائز العقلانية والتنوير الفكري.
في رحاب هذا السياق، أصبح الواقع الاجتماعي يصبوا إلى تأسيس الظلم الاجتماعي، ويزيد من فجوة التفاوتات الاجتماعي داخل المجتمع،مسلوب الارادة، يفتقد بذلك أدنى حقوقه الكونية الانسانية…
مخرجات عمل باولو فريري:
كل ماسبق ذكره، نرصد مظاهر تفاعلية متداخلة فيما بينها، كونها جزئيات منصهرة، من أجل تحديد وتوجيه مصير الكليات التي تتحكم في نسق المجتمع.
من هنا تأتي فلسفة باولو فريري باعتبارها مقاربة التدخل بإمتياز،معتمدا بذلك في نظريته على آليات متعددة ومتنوعة أهمها: الهدم والبناء – التثقيف بالنظير- المقاربة التشاركية – الخطاب.
في معترك هذا الواقع الاجتماعي قرر باولو فريري الاشتباك معه بحكمة وعقلانية منقطعة النضير،صوّب جل تدخلاته من أجل تبني قضية التعليم ذات أهمية بالغة، معتبرا انها هي مكمن الخلل والحسم في تحديد مصير حياة المقهورين.
كون التعليم حاجة ملحة للدول النامية من اجل احقاق الحقوق وبناء التغيير والوعي الاجتماعي، ووسيلة للقضاء على البطالة والفقر، وطريقا للنهوض والازدهار والتطور.
بناء على مخرجات الملاحظة التي قام بها باولو فريري من أجل رصد الأوضاع المعاشة، نستقرئ من خلالها على أنه قام ببناء ووصف تقابل ثنائي للمنهجية التعليم التعليم البنكي – التعليم الحواري،ثم قام بتشخيص دقيق لحياة المقهورين،أظهر صورة ملامح القهر امام المقهورين من أجل صياغة الاستعداد التلقائي والارادي…لتبني مشروع التغيير والانخراط فيه،والتعبئة، والقضاء على مسببات التي جعلت من الناس مجرد أشياء…من أجل تحقيق الانسنة والحد من الاستلاب.
من هنا يكون باولو فريري صمم هندسة وصفية متكاملة الأركان مبنية على استظهار واقع الإنسانية – واقع المعرفة – واقع العملية التعليمية وفقا لهذا الاستظهار الثلاثي سيتمكن من إعداد نظرية علمية وعملية، آدت إلى تحقيق أهداف واقعية في مجال التعليم، بمنهجية جديدة ومتفردة باعتمادها لبنة أساسية، في بناء القطيعة الابستيمية مع طرق التدريس، والقطيعة مع اشكال ومسببات القهر، زارعا بذلك قابلية ونزعة ثورية ارادية في أفراد المجتمع، لتحقيق التغيير والوعي الاجتماعي المنشود حسب تصوره الثاقب.
مآلات عمل باولو فريري:
كما اشرنا سلفا على أن من بين الآليات التي تم توظيفها في المقاربة التربوية هي آلية الهدم والبناء،مستطيعا من خلالها باولو فريري الانتقال من مرحلة التعليم البنكي الى مرحلة التعليم الحواري، هادما بذلك الجمود الفكري التقليد الانصياغ والإذعان المفضي إلى إعادة الإنتاج الاستلاب والتبعية،التي كان يمليها التعليم البنكي،في المقابل نجد مرتكزات التعليم الحواري تدعو وتشيد جو تربوي يسوده الإخاء والمودة والأنسنة،داخل وخارج البيئة التعليمية،باعتماد آليات التثقيف بالنظير والمقاربة التشاركية،من خلال طرح المشكلات وحلها مع المتعلمين…
ان عمليتي الهدم والبناء انتجت لنا القطيعة مع الجهل والتخلف،والاتصال بالذات والوعي بها من خلال الإبداع والحس النقدي…
فالمفارقة الجوهرية التي وقفنا عندها في نظرية باولو فريري في هذا العمل، وأعملنا فيها ملكة المخيلة السوسيولوجية كما تطرق لها أنتوني كيندز…
هو أن النسق الاجتماعي يتكون من وحدات مشكلة له،تعمل بشكل وظيفي ومتجانس فيما بينها،ومؤثرة في بعضها البعض،ومن المسلمات به على أن مشروع التغيير ذو طبيعة شمولية وكلية،ومن أهم وحدات النسق الاجتماعي نجد الاسرة والمدرسة هما قوى حية ومؤثرة في الوحدات الأخرى بشكل قوي…
بالاشتغال المباشر لباولو فريري مع تعليم الكبار في إطار نظريته التربوية، استطاع من خلالها استهداف الأسرة بمحتوى ومضمون مقاربته، عن طريق استثمار مكانة الكبار كونهم لهم دور اجتماعي داخل الأسرة، يتمثل في التنشئة الاجتماعية الأولية،موظفا هذه القناة بطريقة اللامباشرة يمرر من خلالها مشروعه،ويكون بذلك أسس اندماج ثنائي بنفس الفكرة والطموح والمضمون، أي بين ما ينتج داخل التنشئة الاجتماعية الثانوية وما يعاد إنتاجه داخل التنشئة الاجتماعية الاولية،وكل ما انعكس هذا المعطى تبقى نفس النتيجة مضمونة، عكس ما كان ينتج داخل التعليم البنكي الذي كان نقيضا للواقع الاجتماعي و نقيضا حتى لمضامين التربوية السائدة داخل التنشئة الاجتماعية الأولية،ونتيجة هذا النقيض تتجسد في هذا العمل.
كما أن هذه المقاربة التربوية تمكنت من خلال نتائجها ملائمة جميع المواثيق والمعاهدات الدولية والاقليمية التي تؤكد على ضرورة ضمان الحق في التعليم،ومناسبة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان،في موطن الحق في التعليم.
تعد أيضا ملائمة للواقع التربوي العربي،مكنته بذلك من تقوية النقد البناء، والقطع مع التنميط الذي يزيد من فجوة الانسلاخ من الهوية ومسخها،الذي يساند الاجثيال الفكري الذي يحقق التجانف عن المعرفة والوعي الاجتماعي.
خلاصة تركيبية:
نستخلص عمل باولو فريري هذا بقياسه وعرضه على الواقع الاجتماعي الحالي والراهن،نجد على أن الحياة الاجتماعية طرأ عنها عدة تغيرات وتحولات اجتماعية جذرية، من أهم مظاهرها النقلة الرقمية باعتبارها ثورة بكل المقاييس،تضاف إلى باقي الثورات الفكرية والصناعية والسياسية،ناتجة ظواهر اجتماعية، كالتفاهة وتعفن الدماغ.
وعدم حسن توظيف آلياتها انعكس سلبا أيضا على مجال التعليم، بانخفاض من درجة القابلية والابداع والمشاركة، والاكتفاء أحيانا بوحي ذكاء الاصطناعي،نقلا بدل عقلا… إن هذا الخلل المرصود يستنزف الطاقة والموارد البشرية،دون جدوى تعود بالنفع على المجتمع والحياة الاجتماعية.
كما نرصد ايضا تغلغل الثقافة البراغماتية داخل المجتمعات تعترف بالنفع الفردي فقط،مؤثرة في الرابط الاجتماعي،بحيث تمكنت من زعزعة فاعلية منظومة القيم الكونية،مما ظهر لنا ازدواجية المعايير إزاء التعامل مع القضايا الإنسانية الكبرى…
كلها مستجدات اجتماعية تسقط على السياق والواقع الاجتماعي،الذي أنتج فيه عمل باولو فريري حياة المقهورين.
من أجل ضمان استمرارية المآرب الانسانية لهذا العمل، يستوجب البلورة والتنقيح والتكييف مع السياق والواقع الاجتماعي،والاتصال والانفصال بما هو لازم،ليكون العمل مساير وملم بالظواهر الاجتماعية،ومكملا للحتمية الإنسانية التي سعى باولو فريري إلى فرضها وتثبيتها واقعا اجتماعيا، إنسانيا في حياة المقهورين…
أضف تعليق